واحد من القطيع

نشر في 08-09-2025
آخر تحديث 07-09-2025 | 20:39
 حسن العيسى

خجول، لا يتجاوز طوله خمس أقدام وثماني بوصات، يكاد يبدو أعمى. متحفظ، لا يتأثر بما يدور حوله. يعيش في بيت عادي يشبه مئات البيوت في ضواحي المدن الكبرى. قصير النظر، يجلس في المطعم عند طاولة الطعام ليخبر النادل أن معدته حساسة، ثم يطيل النظر في قائمة الأطباق ليتحقق إن كان الشاي داكناً قد يؤذيه، ويشدد على أن الطعام يجب أن يخلو من البهارات المرهقة للمعدة. أي تغيير طفيف في وجبته قد يربك أعصابه. لا يطلب كأساً من النبيذ، ولا يشرب قهوة بعد الطعام، ولا يدخن سيجارة أو سيجاراً بعد وجبته الباهتة.

يتحدث مع جاره على الطاولة القريبة بصوت خفيض ومؤدب. لا يهوى الأحاديث الطويلة، ويخشى الأسئلة الكثيرة التي لا يعرف لها جواباً.

هكذا رسم لنا الروائي النمساوي ستيفان زفايغ صورة لإنسان باهت، هامشي، لا يترك أثراً في العالم، "لا يهش ولا ينش". شخصية عادية إلى حد الملل، وجد فيها أحد كُتّاب سيرة نيتشه المثال الأوضح لإنسان بلا طعم، بلا روح متوثبة أو إرادة تتحدى الواقع. إنسان يسعى إلى الرضوخ والسكينة وحياة بلا مقاومة، على النقيض تماماً من "الأوبرمِنش" (الإنسان المتفوق) عند نيتشه، أو مثل سيزيف في قراءة ألبير كامو، الذي يدحرج صخرته إلى القمة بلا توقف، مدركاً لمعاناة الوجود، لكنه لا يرضخ لقدره.

إنه ذاك الذي يسير في الظلال، تحت السقف وداخل الصف، لا يعرف غير البصم والانقياد. إنه واحد من القطيع. هو الصغير الذي تعظم في عينه الصغائر، كما وصفه المتنبي. ساعة سويسرية منضبطة لا تقدّم ولا تؤخر. وجوده بلا جدوى، وبأمثاله لا يتقدم التاريخ خطوة إلى الأمام. إنه والعدم سواء.

back to top