الكويت بين التقدُّم في مؤشر السلام العالمي وحتمية استثمار الاستقرار
• الاستقرار الأمني ينتظر ترجمته اقتصادياً وسياحياً
في زمنٍ يتزايد القلق العالمي من تصاعد الصراعات وتراجع مستويات السلم، تبرز الكويت كإحدى الدول القليلة التي تمكنت من الحفاظ على موقعٍ متقدِّم في مؤشرات الأمن والاستقرار. فقد صنَّفها مؤشر السلام العالمي لعام 2025 في المرتبة الحادية والثلاثين عالمياً والثانية خليجياً في عام 2025 بعد قطر، ما يعكس ثباتها النسبي في منطقة تُعد من أكثر مناطق العالم اضطراباً.وتأتي أهمية هذا الترتيب الذي حصلت عليه الكويت من أن السلام غالباً ما يقود إلى الرخاء، وفق إجماع خبراء السياسة والاقتصاد. فالمجتمعات المُسالمة تشهد نمواً أكبر في الدخل، وعُملتها تكون أقوى، وقادرة على استقطاب استثمارات أجنبية أعلى. يُضاف إلى ذلك، أنها تتمتع باستقرارٍ سياسي وشعورٍ أكبر بالسعادة بين مواطنيها
ما هو مؤشر السلام العالمي؟
صدر مؤشر السلام العالمي (Global Peace Index – GPI) لأول مرة عام 2007 عن معهد الاقتصاد والسلام (IEP)، ويُعد من أكثر المؤشرات شمولاً في قياس مستويات الأمن والسلم حول العالم.
يضم المؤشر حالياً 163 دولة ومنطقة مستقلة تمثل أكثر من 99 في المئة من سكان العالم، ويعتمد على 23 مؤشراً كمياً ونوعياً تغطي ثلاثة محاور رئيسية:
1. مستوى الأمن والأمان المجتمعي: يشمل معدَّلات الجريمة العنيفة، وجرائم القتل، والاستقرار السياسي، واحتمال وقوع هجمات إرهابية، وعدد السجناء، وثقة المواطنين في مؤسساتهم.
2. مدى الصراعات الداخلية والدولية: يقيس عدد النزاعات الجارية، وحجم الوفيات الناتجة عنها، ومستوى التوترات مع الدول المجاورة، وحجم مشاركة الدولة في الحروب الخارجية.
3. درجة العسكرة والتسليح: يتابع حجم الإنفاق العسكري، وعدد أفراد القوات المسلحة، وحجم الأسلحة الثقيلة، وانتشار الأسلحة الصغيرة والخفيفة في المجتمع.
المؤشر العالمي للسلام... لغة الأرقام وذاكرة الشعوب
قد يتساءل القارئ: ما معنى أن تحتل دولة مرتبة متقدمة، مثل الكويت؟
إن مؤشر السلام العالمي (GPI) لا يقيس مجرَّد غياب الحرب، بل يضع الدول أمام مرآة ثلاثية الأبعاد: الأمن الداخلي، ومستوى الصراعات، وحجم العسكرة، ويرسم المؤشر صورة دقيقة تكشف ما وراء العناوين.
منذ إطلاقه عام 2007، أثبت المؤشر أنه ليس مجرَّد تصنيف رقمي، بل سجل تاريخي يقيس إيقاع الاستقرار العالمي. وعندما نقرأ أن الكويت تسبق عشرات الدول في هذا التقييم، فإن ذلك يعني ببساطة أن المواطن فيها ينام أكثر طمأنينة من جاره في كثيرٍ من العواصم، وأن الدولة تُدار بعقلٍ بارد في محيط ملتهب.
لماذا يهمنا هذا المؤشر؟
الحديث عن الأمن ليس مجرَّد بيانات رقمية، بل هو أساس لقياس قدرة الدول على جذب الاستثمارات وتنشيط الاقتصاد. فالمستثمر الأجنبي لا يضع أمواله في بيئة مضطربة، والسائح لا يقصد مكاناً يفتقر إلى الاستقرار. الأمن المستدام يعني بيئة آمنة للأعمال، وقضاء مستقلاً، ومؤسسات قوية، ومجتمعاً يشعر أفراده بالطمأنينة.
أفاد تقرير مؤشر السلام العالمي: «مفتاح بناء السلام في أوقات الصراع وعدم اليقين هو السلام الإيجابي، أي التوجهات والمؤسسات والهياكل التي تبني وتُحافظ على المجتمعات السلمية».
الكويت بين الأمن والاقتصاد
على الرغم من هذا الاستقرار الأمني، لا تزال الكويت تعتمد بشكلٍ شبه كامل على عائدات النفط، في وقت شرعت جاراتها الخليجيات في تنويع اقتصاداتها عبر الاستثمار في السياحة، والتكنولوجيا، والخدمات اللوجستية. ورغم وجود محاولات في الكويت لتعزيز السياحة الثقافية والعائلية، فإنها ما زالت أقل جاذبية من دول، مثل: الإمارات، وقطر، والسعودية.
لكن الخطوات الأخيرة التي أعلنتها «الداخلية» تشير إلى إدراك الدولة لضرورة استثمار المناخ الأمني في الانفتاح على العالم، حيث كشفت عن تسهيلات كبيرة في نظام إلكتروني التأشيرات، وتقدم معلومات متكاملة وخدمات إلكترونية للزوار.
هذه الخطوات تعكس توجهاً جديداً نحو تنشيط الاقتصاد وجذب الاستثمارات والسياح، وهي مبادرات تستحق الإشادة والدعم.
المطالبات: من الأمن إلى التنمية الشاملة
كيف يمكن للكويت أن تحوِّل مكتسباتها الأمنية إلى قوة اقتصادية وسياحية حقيقية؟
• تعزيز التشريعات الاستثمارية، وإزالة العراقيل البيروقراطية أمام المستثمر الأجنبي، بما يرفع من جاذبية البلاد كمركز مالي وتجاري.
• تنويع مصادر الدخل بعيداً عن النفط، من خلال دعم الاقتصاد الرقمي، وتطوير الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وإطلاق مناطق اقتصادية حُرة.
• إصلاح البنية التحتية السياحية، من خلال بناء مشاريع نوعية (ثقافية، بيئية، طبية) تستند إلى الهوية الكويتية، بما يميزها عن التجارب الخليجية الأخرى.
• تعزيز الأمن الوقائي باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والتحوُّل الرقمي في مراقبة التهديدات، للحفاظ على المكانة المتقدمة في المؤشر العالمي.
ساعة الحقيقة
لقد أثبتت الكويت خلال الأعوام الأخيرة أنها قادرة على الحفاظ على مكانتها في عالمٍ متغيِّر ومضطرب. والتحدي المقبل هو استثمار هذا الأمان في بناء اقتصاد أكثر قوة، وسياحة أكثر جاذبية، بما يعزز رفاهية المواطنين، ويضع الكويت بموقعها المستحق كدولة آمنة، ومستقرة، ومزدهرة في قلب المنطقة.
نحن أمام لحظة فارقة؛ إما أن تكتفي بالتفاخر بمؤشرات السلام، أو أن تجعل منها منصة انطلاق لنهضة جديدة تستفيد من الاستقرار لبناء مستقبل اقتصادي وسياحي أكثر إشراقاً.
* وزير الصحة الأسبق