حين أبحرت فلسطين وغفا العرب! *

نشر في 08-09-2025
آخر تحديث 07-09-2025 | 18:41
 خولة مطر غزة وفلسطين لا تغيبان عن أيام كثيرين من البشر الحقيقيين...

نعم، فعند فلسطين وشعبها ينقسم الناس إلى بشر حقيقيين أو «لا بَشَر»، ولا شيء بينهما، لا منطقة رمادية ولا محايدة باهتة.

هناك في بقاع الأرض بشر لا يتعبون ولا ترهقهم مشاهد الموت في غزة، بل تحفزهم للتحرك والبحث عن وسيلة لكسر الحصار؛ سواء كان الحصار العسكري على يد الصهيونية البشعة ومشاريعها، أو الحصار الثقافي، أو حتى حصار السردية.

هناك رواية طالما روّج لها المحتل، بل أنفق ثم أنفق عليها الكثير منذ عشرات السنين

والتهديدات أيضا!

وهناك تتسلل الحقيقة الآن كما هي، وكما يرويها أهل غزة الملتصقون بأرضهم وبحرهم وسمائهم. وحتى في تلك المؤسسات والعواصم التي لطالما بقيت في قبضة الصهاينة وحلفائهم من المستعمرين السابقين لم تستطع الآلة الإعلامية الصهيونية أن تصمد، فسقطت كحجر الشطرنج، حتى صواريخهم تطارد لابسي السترات الزرقاء الذين جعلوا من عدساتهم وروايتهم وتغطيتهم أقوى من كل الأسلحة الفتاكة، فأصبحوا هم الهدف!

مرّ أسبوع بدت فلسطين فيه كأنها استعادت موقعها في قلب العالم الحُرّ وتحولت غزة، تلك البقعة الصغيرة المضرجة بالدم والصبر والإيمان والحلم، حيث صارت عنوانا يوميا على شفاه الملايين في موانئ ومدن بعيدة، بينما بقيت مهمّشة أو مطموسة عند تلك الأقرب لها.

هي ملحمة جديدة، حيث تتلاقى أصوات وهتافات المودّعين وأعلام فلسطين وبعضهم حمل «الحرية لغزة» و«فيفا فلسطين»، وصورا حملت وجوه أطفال لم تعرف من الحياة سوى الحصار والجوع والخوف والدمار واليُتم.

من برشلونة، انطلقت سفن الفلوتيلا، وسط أجواء احتفالية في مشهد إنساني نادر؛ أعلام فلسطين ترفرف في الميناء، نشطاء من كل الجنسيات يحتضنون بعضهم البعض، وكأنهم عائلة واحدة جمعتها محبة غزة وهمّها الكبير.



تزداد الحناجر قوة كلما اقتربت ساعة الرحيل، وتتعالى الأغنيات والهتافات بكل لغات الكون، لكن هدفها واحد: أن يمرّ الضوء، في آخر النفق، إلى أهل غزة حتى لو من قلب البحر.

في برشلونة وجنوة وتونس وموانئ أخرى ومدن لم تنم ولم تهدأ.

كان الوداع مشهداً من سينما الحياة؛ سفن وبشر حقيقيون كبار وشباب ونساء ورجال، ووقف الأطفال عند حافة الموجه وكأنهم يهمسون برسائلهم لأطفال غزة، علّها تصل، وكأن العالم كله أراد أن يقول شيئًا واحدًا: «لستم وحدكم».

«الفلوتيلا لكسر حصار غزة» ليست قافلة بحرية، بل هي شهادة حياة، وهي موقف إنساني وأخلاقي وحلم مشترك يتجاوز عتبات الجغرافيا والدين واللون.

وقفت مجموعة من الخليجيين ليرفعوا أصواتهم في «الفلوتيلا» الخليجية، ويقولوا لسنا معهم، ولم نُستَشر في تلك الاتفاقيات، بل نحن هناك مع أهلنا في غزة، ومع كل هؤلاء البشر المبحرين الى غزة لكسر الحصار ورفع الظلم الأكبر في التاريخ الحديث.

هذا الحراك الإنساني لم يكن محصورًا في الموانئ، بل امتد إلى المقاهي والقاعات وعلى الأرصفة، كان الحديث عن غزة موضوعًا حاضرًا في الجامعات والبرلمانات والمدارس. وفي مهرجانات السينما، دوّى اسم هند رجب عاليًا، ووقف الجمهور مصفقًا لفيلمها الذي جسّد معاناة غزة وحلمها بالحرية، وحصد الفيلم إعجاب النقاد والجمهور، وأصبحت هند رجب رمزًا فلسطينيا جديدا للمقاومة، وشكّل الفيلم صرخة ضد حرب الإبادة والتطهير العرقي.

لكن، في المقابل، ظل الشرق يغطّ في سباته الطويل، باستثناء حراك خجول في الكويت والبحرين وبعض المبادرات الفردية من نشطاء خليجيين، كان المشهد في بقية الخليج والعالم العربي باهتًا إلى حد الألم.

لم تُشاهد جموع تودّع السفن ولا أصوات ترتفع في الساحات، وكأن الشعوب أُنهكت حتى من التعبير عن الغضب. وتكررت العبارة: «لقد تعبنا»، وكأن التعب صار قناعاً يخفي خلفه عزوفاً عن الفعل، وأملاً مستقراً في قعر القلب لا يجد منفذاً للضوء.

ما الذي حدث لجيل كان يُردد يوماً أن فلسطين هي البوصلة؟ كيف أصبح البعض يكتفي بإعجاب بمنشور على وسائل التواصل، أو دمعة على مشهد إخباري، بينما حول العالم لا يتوقف النشطاء عن الحراك؟ من أميركا إلى أيرلندا، من إسبانيا إلى إيطاليا، وفي شتى بقاع الأرض، أصرّ العالم على أن غزة لا تموت وحدها، وأن هناك مَن يبحر كل يوم لأجلها، ويظل يوقظ الضمائر، فيما يغيب شرقها عن موعده مع التاريخ.

لقد كان هذا الأسبوع مفارقة صارخة، دروس في الإنسانية على ظهر سفن وفي قاعات مهرجانات السينما العالمية، وهنا، حيث نحن، لا شيء سوى صمت القبور.

* يُنَشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

back to top