الطفلة هند رجب صارت صوتاً للعالم وجرحاً لا يندمل
• تمسّكت بحبال صوتها فأطلقت العنان وكان النداء الذي يهزّ الضمير
لم تذهب صرخات الطفلة هند رجب أدراج الرياح، بل كانت الريح التي وصل مداها في كل الأرجاء، حيث حصد الشريط السينمائي الموسوم باسم هذه الطفلة جائزة الأسد الفضي في مهرجان فينيسيا السينمائي بدورته الـ 82.
مَن هذه الطفلة التي جلبت بزئيرها الأسد الفضي، وما حكايتها، وما الظروف التي واجهتها؟
هند رجب، طفلة فلسطينية من غزة، وُلدت في 3 مايو 2018، واستشهدت في 29 يناير 2024، وهي تبلغ نحو 5 سنوات. نالت هذا الشرف أثناء محاولتها الفرار مع عائلتها من حي تل الهوى في غزة، تعرّضت سيارتهم لإطلاق نار كثيف من قوات الاحتلال الإسرائيلي، مما أدى إلى استشهاد عدة أقارب لها داخل السيارة، وبقيت هي وطفلة أخرى على قيد الحياة، فتواصلتا مع «الهلال الأحمر» الفلسطيني.
أصبحت المكالمة التي أجرتها هند مع «الهلال الأحمر» هي الأكثر شُهرة في حياتها القصيرة، التي استمرت نحو 3 ساعات، فبعد أن علقت في السيارة بلا حول ولا قوة، تمسّكت بحبال صوتها، وأطلقت العنان طالبةً النجدة، فكانت النداء الذي يهزّ الضمير، فسار صوتها بين الأسلاك يخترق كل الرادارات ووسائل التعتيم الإعلامي، لتخبر رجال «الهلال الأحمر» بوجود دبابة إسرائيلية تطلق النار عليهم.
تفاصيل هذه المكالمات وصلت إلى الإعلام الدولي، مثل «رويترز» و«واشنطن بوست»، حيث أكّدت التقارير الإعلامية وجود نحو 335 طلقة نارية على السيارة، وأن الدبابة كانت قريبة بما فيه الكفاية لرؤية الأطفال بداخلها، مما يوضح وحشية المعتدي الأثيم وتجرّده من كل الصفات الإنسانية، والإصرار على انتهاك مواثيق الأمم المتحدة، وكذلك الأعراف الإنسانية.
بعد 12 يوماً من الحادثة، وبعد انسحاب القوات الإسرائيلية من المكان، عُثر على جثة هند داخل السيارة، كما وُجدت جثث المسعفين الذين حاولوا الوصول إليها، إضافة إلى سيارة الإسعاف المحترقة. براءة تحت الركام، حوّلت قصّة هند رجب إلى رمز عالمي لبراءة الضحايا المدنيين، وخصوصًا الأطفال، وسط الصراع.
من خلال مكالمتها المأساوية، أصبحت صوتاً مؤثراً في الإعلام والنقاش الدولي.
ونظراً لفداحة ما جرى، فقد تم إنشاء مؤسسة باسمها (Hind Rajab Foundation)، تعمل على متابعة إجراءات قانونية ضد المسؤولين، وتوثيق الحادث، والعمل على مكافحة إفلات مرتكبي الجرائم من العقاب.
ولأن السينما مرآة الواقع، فقد أُنتج فيلم تونسي هذا العام بعنوان «صوت هند رجب» (The Voice of Hind Rajab)، من إخراج كوثر بن هنية. يجسّد الفيلم الحدث من منظور فريق «الهلال الأحمر»، الذي حاول إنقاذها باستخدام التسجيلات الصوتية الحقيقية للمكالمات.
عُرض الفيلم لأول مرة في مهرجان فينيسيا السينمائي قبل أيام، وحصل على تصفيق قياسي دام بين 22 و23 دقيقة، في تفاعل قوي من الجمهور والتغطية الإعلامية. واتساقاً مع أهمية العمل شكلاً ومضموناً، رشّحت تونس الفيلم لتمثيلها في جوائز الأوسكار ضمن فئة أفضل فيلم دولي.
وعقب هذا التتويج في أحد أعرق المهرجانات السينمائية بالعالم، أصبحت قصة هند رمزاً عالمياً لبراءة الأطفال في الحروب، تماماً كما أصبحت صورة محمد الدرّة (2000) رمزاً قبلها.
الطفلة بصوتها وصرخاتها في مكالمة الهلال الأحمر حركت مشاعر ملايين البشر، لأنها عكست الخوف والبراءة والعجز في آن. لكنّ المثير هذه المرة، أن الألم تحوّل إلى وعي عالمي، الكثير من الناس حول العالم ممن لم يكونوا يتابعون تفاصيل غزة، تعرّفوا على المأساة عبر قصة هند. وعلى الصعيد الدولي، لم يستطع الإعلام العالمي تجاهل هذه القصة، بل تمت متابعتها بشكل موسع في (واشنطن بوست، رويترز، الجزيرة، الغارديان...) وأصبحت جزءاً من النقاش العام حول الجرائم ضد المدنيين في غزة. وضمن هذا السياق، لم تكن المنظمات الحقوقية بمعزل عن هذا التوجه، حيث تبنّت قصتها كمثال واضح على استهداف المدنيين، وأُدرجت في تقارير عن جرائم الحرب ومطالب بالتحقيق الدولي.
وفي غضون ذلك، شهدت القضية تفاعلاً كبيراً في المؤسسات الرسمية العالمية، حيث قدمت بعض البرلمانات الأوروبية مداخلات لنواب ذكروا قصة هند للدفاع عن وقف الحرب ومحاسبة المسؤولين. وبالرغم من أن صوت هند صغير، فإنه أيقظ العالم الكبير، من خلال الفيلم، فالسينما كسلاح إنساني جعل القصة تصل إلى ملايين الناس بطريقة وجدانية وفنية، وليس عبر الأخبار الباردة فقط.
قصة هند لم تبقَ حادثة محلية في غزة، بل تحوّلت إلى رمز إنساني عالمي يختصر معاناة المدنيين في الحروب. هي قضية حقوقية تدفع للمطالبة بتحقيقات دولية في جرائم الحرب، وظاهرة فنية وثقافية عبر فيلمها، جعلت العالم يصفق طويلاً ويبكي جماعياً.
هند لم ترحل... فصوتها باقٍ يذكّر العالم بأن الطفولة لا تُقصف. إنها الطفلة التي صارت صوتاً للعالم، وجرحاً لا يندمل. «هند... ليست ذكرى، بل عهدٌ أن الطفولة حق لا يُقصف». هند رجب... دمعة تحولت إلى قضية.