نحن بحاجة إلى معرفة التاريخ خصوصاً الآن
يرى مُعظمنا أن الخريف هو العام الجديد الحقيقي، حيث نعود إلى الحياة وإلى نشاطٍ جديد. إنه وقت مناسب للتأمل فيما يدفعنا إلى الأمام. نحن نعيش في زمنٍ غنيٍّ بالتاريخ، لا فقير به، وإعادة التذكير بمسلماتنا تساعد على إعادة التوجيه.أحد الدوافع وراء هذا العمود، هو الإيمان بأن قراءة التاريخ، والتفكر فيه، أمر نافع. فالتاريخ ليس مجرَّد تسجيلٍ جاف للوقائع، بل يحمل بُعداً أخلاقياً؛ إنه يعلمنا، ويعزز ما نؤمن به وما نقف لأجله. كما يُتيح لنا إدراك أن كل ما نملكه اليوم من مؤسسات وفنون وقوانين إنما شُيِّد بجهود مَنْ سبقونا، وأن الجهل بالتاريخ ليس فقط نقصاً في المعرفة، بل هو نوع من الجفاء ونُكران الجميل.
هذا الصيف قرأت خطاب المؤرخ الأميركي ديفيد ماكولو عام 1995 عند تسلُّمه وسام «المساهمة المتميزة في الأدب الأميركي» من المؤسسة الوطنية للكتاب. الخطاب بات الفصل الأول في كتاب صدر حديثاً بعنوان «التاريخ مهم»، يضم مقالات وخُطباً له. ماكولو، الذي تُوفي عام 2022، كان صاحب أعمال مرموقة، مثل: «ترومان»، و«جون آدامز»، و«الأخوة رايت». في خطابه قال: «التاريخ يعلِّمنا كيف نتصرَّف، وهو امتداد للحياة، يوسعها، ويعمِّق تجربتها».
معرفة التاريخ تمنحنا إحساساً بالتناسب وبالمقياس. فالحياة مليئة بالضغوط والتحوُّلات، وقراءة التاريخ تمنحنا «إحساساً بالملاحة» وسط هذا الزخم، وتذكِّرنا بأن أسلافنا مرَّوا بأهوالٍ، وصمدوا.
كان لماكولو أثر شخصي عليّ. فقد كتب إليّ، مُعلقاً على أحد أعمدتي حول أهمية المراسم الوطنية في تكريم الراحلين من القادة، وقال إنها «تذكّرنا بكرامتنا». هذا الحس بالكرامة، الممزوج بالسعي إلى الحقيقة، شكَّل جوهر عمله.
لكننا اليوم نشهد انحرافاً عن قِيمنا التاريخية. في يونيو الماضي، استخدم الرئيس ترامب لغةً حادة وهو يخاطب الجنود في فورت براج، مُحولاً اللقاء إلى ما يُشبه مهرجاناً انتخابياً، وهو ما اعتبرته خروجاً عن تقاليدنا. تلقَّيت بعدها رسالة من مستشار سياسي مخضرم، قال إنه يُوافقني، لكنه أقرَّ بحزنٍ أن المشهد السياسي تغيَّر؛ فالتظاهرات باتت منظَّمة بتمويلٍ من الحملات، وليست عفوية كما في الماضي. وأوضح أن الجيل الجديد من الناشطين لا يعرف سوى هذا الواقع.
أدركت أن مهمتنا نحن، أبناء الجيل الأكبر، أن نقدِّم للجيل الصاعد نموذجاً للقِيم العامة الأقوى التي ميَّزت ماضينا، حتى يعرفوا أن بدائل أفضل كانت موجودة، ويمكنهم تبنيها وإحياؤها. كما كتبت لذلك المستشار: «أكتب لهؤلاء الشباب الذين لم يعرفوا الرُّقي في السياسة، علَّهم يتعلمون كيف يبدو، ويتمكنون من تقليده».
لا يجوز أن نتعامل مع الماضي بحنين ساذج ونقول إنه كان «أجمل». لم يكن جميلاً دائماً، فقد صنعه بشر بأخطائهم. لكن في الماضي القريب كانت معايير السلوك العام أوضح وأكثر صرامة، وتوقعاتنا من القادة أعلى، وسلوكهم العام أفضل مما نرى اليوم. من هنا، ليست الغاية العيش في الماضي، بل نقل أفضل ما فيه إلى الحاضر.
التاريخ يسير إلى الأمام فقط، والمرحلة التي نعيشها لن تُصبح أقل صعوبةً بمرور الوقت، بل ربما أشد قسوة في السياسة، وفي الضغوط الاجتماعية. لذلك، لا يكفي أن نترك للأجيال القادمة المال أو النصائح الفارغة، بل علينا أن نورثهم شيئاً من القِيم والتجارب التي تساعدهم على الصمود.
إن قراءة التاريخ مع بداية عامٍ جديد تبدو أفضل وسيلة لاستخلاص لحظات الكرامة والعظمة من الماضي، ومحاولة حملها معنا إلى المستقبل.
* بيغي نونان