بالمختصر: «أوتزي» والرجل المصري: وجوه خرجت من الجليد والفخار

نشر في 07-09-2025
آخر تحديث 06-09-2025 | 17:38
 د. فهد إبراهيم الدوسري

على تخوم الألب، حيث الثلج يلف الجبال ككفنٍ أبيض، تمدَّد جسد رجلٍ عاش قبل خمسة آلاف عام. سموه «أوتزي». جرحٌ في كتفه، وشعرٌ متجمِّد، ووشوم على جلده تُحاكي أسرار زمنٍ لم يُكتب بعد. كان جليد الطبيعة تابوته، يحفظ ملامحه ليومٍ يأتي فيه العلماء، يحملون عدساتهم ومجاهرهم بدلاً من القرابين. وفي الصعيد المصري، في جرّة فخارية مطمورة تحت الرمال، وُجد رجل آخر، دفن قبل نحو 4700 سنة. لم يعرفوا اسمه، لكنهم عرفوا أنه ابن حضارةٍ صاعدة نحو الأهرام، وأن الفخار كان غلافه الأخير. بقي جسده صامتاً، حتى ناداه العلم ليعود شاهداً.

لغة الـ DNA: ذاكرة لا تنسى عبر خيوط دقيقة لا تُرى بالعين، استُدعي «أوتزي» والمصري إلى قاعة البحث. هنا تحدَّثت الجينات:

• أوتزي قال: «أنا من نسلٍ يمتد إلى سردينيا، كنت صياداً، عرفت القوس والسهام».

• المصري أجاب: «أنا من سلالةٍ تعانقت فيها شمال إفريقيا والشرق الأدنى. كنت ابن حقولٍ ومجاري النيل». ثم جاء علماء الطب الشرعي بالأنثروبولوجيا، ليُعيدوا تشكيل الوجوه. أخذوا قياسات الجمجمة، وربطوها بالـ DNA، فخرجت صور على الشاشات: رجل بملامح حادة، وعينين غائرتين من البرد، وآخر بوجهٍ أسمر، تغشاه هالة وادي النيل. وكأنهما خرجا من موت طويل ليتبادلا النظرات.

- الاسترداد العائلي: حين يعود الغائب لم يعد الأمر مجرَّد اكتشاف أثري، بل كان استرداداً عائلياً بعد آلاف السنين. وجوه أُعيد رسمها لتقول لأحفاد مجهولين: «ها نحن، أجدادكم، ما زلنا بينكم، محفوظين بالثلج والفخار». العائلات لم تُعرف بالأسماء، لكن الأصول الجينية ربطت بين أحفاد أوروبا المعاصرة وأحفاد مصر القديمة. وكأن الزمن دائرة، يُعيد وصل ما تقطَّع.

- الطب الشرعي والأنثروبولوجيا: علم وفن الطب الشرعي هنا لم يكن مجرَّد مشرط في مشرحة، بل فن استدعاء التاريخ. تعاون مع الأنثروبولوجيا ليقرأ العظام، ثم مع علم الوراثة ليقرأ الخلايا. وخرج بعمل فانتازي أقرب إلى الحلم: أن ترى وجه رجل مات قبل 5000 سنة، في شاشة ثلاثية الأبعاد، يكاد يفتح عينيه.

- فلسفة الصمت أوتزي صمت في جليده، والمصري صمت في فخاره، حتى جاء العلم ليجعلهما ينطقان. كلاهما يقول لنا إن الأثر لا يموت، وإن الجسد كتاب، يقرأه الطب الشرعي كما يقرأ المؤرخ ورقةً قديمة، وإن الصمت الطويل ليس فناءً، بل هو انتظار للحظة يُسترد فيها التاريخ.

خاتمة:

بين الجليد الأوروبي والفخار المصري، تقف الإنسانية أمام مرآتها: وجوه عادت من الماضي لتذكّرنا أننا لسنا أبناء حاضرٍ فقط، بل أبناء تاريخ محفوظ في جيناتنا، وصامت في عظامنا، ينتظر أن ينطقه الطب الشرعي والأنثروبولوجيا والـ DNA.

back to top