المجاعة في غزة: جريمة حرب ثابتة
في ساحة العدوان والإجرام المستعر في غزة، تتقاطع مأساتان تتجاوزان حدود الدمار المادي: الجوع المُستخدم كأداة حرب، وضياع العدالة الدولية في مواجهة واحدة من أبشع الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.
تُظهر تقارير الأمم المتحدة أن ما يقارب المئة ألف شخص مهددون بالموت جوعاً من أصل 2.1 مليون نسمة بقوا عالقين في القطاع، وتشير بيانات «اليونيسف» إلى أن واحداً من كل ثلاثة أشخاص يقضي أياماً بلا طعام، فيما ارتفع معدل سوء التغذية الحاد بين الأطفال دون سن الخامسة إلى نسبة مرتفعة جداً تفوق الخطوط الحمراء المعتمدة دولياً، كما تؤكد منظمة الصحة العالمية أن النظام الصحي في غزة شبه منهار.
ورغم ما قد يقال عن الصمت الدولي وتآمر الديموقراطيات الحديثة على أهل غزة، لم تستطع الأمم المتحدة مجتمعة إلا وأن تقر مؤخراً، عبر منظومة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) وبمشاركة بعض وكالاتها المتخصصة، أن أكثر من نصف مليون إنسان في القطاع يعيشون اليوم تحت ظروف تُصنَّف رسمياً بـ «المجاعة الكارثية»، مع مؤشرات ميدانية مروّعة من الجوع الشديد، وسوء التغذية الحاد، وارتفاع الوفيات الناجمة عن الحرمان من الغذاء.
هذا الإعلان الأممي غير المسبوق في المنطقة يكشف أن ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة غذائية طارئة، بل جريمة ضد الإنسانية من صنع أكثر البشر إجراماً في العصر الحديث، وبخاصة أن استخدام التجويع كسلاح حرب يرقى إلى مستوى «جريمة حرب» مكتملة الأركان بموجب القانون الدولي الإنساني، الأمر الذي يجعل من هذه المجاعة قضية أخلاقية وقانونية عالمية تتطلب وقفة حازمة لمحاسبة المسؤولين عنها ووقف نزيف الأرواح.
ورغم أن المواقف الدولية والسياسية ما زالت مترددة وضعيفة، فقد دعت المفوضية الأوروبية للشؤون الإنسانية إلى فتح المعابر فوراً، مؤكدة أن المجاعة «واقع قائم وليس مجرد خطر»، أما المنظمات الحقوقية المعنية فقد شددت على أن ما يحدث يمثل جريمة حرب. ويعد البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 واضحاً في مادته 54، إذ يحظر بشكل قاطع استخدام التجويع ضد المدنيين كسلاح حرب، كما أن المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تضع هذا الفعل ضمن «جرائم الحرب».
وقد سبق أن استخدمت هذه النصوص في ملاحقات قضائية أمام المحكمة الخاصة بسيراليون، حيث اتُّهم قادة ميليشيات بارتكاب جرائم تجويع ممنهجة خلال النزاع الأهلي، كما اعتبرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أن حرمان المدنيين من المواد الغذائية والطبية في سراييفو ومناطق أخرى شكل جريمة حرب تستوجب المحاكمة، كما أن محكمة رواندا الجنائية الخاصة أقرت بأن استخدام الحصار والتجويع ساهم بشكل مباشر في إبادة جماعية.
القانون الدولي الإنساني لا يكتفي بالتجريم الأخلاقي، بل يضع المسؤولية الجنائية المباشرة على الأفراد، سواء كانوا قادة عسكريين أو سياسيين، وهذا يعني أن قادة جيش العدو الإسرائيلي ورؤساء حكوماته قد يُلاحقون أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، خصوصاً في ظل انضمام فلسطين إلى نظام روما الأساسي عام 2015.
في ظل هذا الواقع المرير والركائز القانونية الواضحة، تصبح مسؤولية المجتمع الدولي مضاعفة: ليس فقط لإرسال المساعدات الإنسانية وفتح المعابر، بل لإطلاق مسار قانوني واضح لمحاسبة مجرمي الحرب ومنع الإفلات من العقاب.