وجهة نظر: البعد الاقتصادي للحوكمة الرقمية لقطاع الصحة في الكويت 2035
د. إيهاب عبدالرحيم الضوي
جاءت رؤية الكويت 2035 «كويت جديدة» كخارطة طريق شاملة، تعتمد على ركائز متينة، منها الاقتصاد المتنوع، والبنية التحتية المتطورة، والتنمية البشرية المستدامة، والإدارة الحكومية الفعالة. إلا أن الركيزة الصحية تظل حجر الزاوية لأي تقدم حقيقي ومستدام، فلا تنمية تتحقق دون صحة، ولا اقتصاد قوي يبنى في ظل ضعف الخدمات الصحية. ولا تزال المستشفيات الحكومية – رغم توسع البنية التحتية الصحية ضمن رؤية 2035، التي بلغت 20 مستشفى حكومياً و16 خاصاً – تواجه ضغوطاً حقيقية من حجم الخدمات المطلوبة، لاسيما مع ارتفاع عدد المرضى داخل المستشفيات العامة.
الحوكمة الرقمية تعتبر الشريان الذي يغذي المنظومة الصحية في عالم اليوم الذي تسوده التحولات الرقمية المتسارعة، لم تعد الحوكمة الرقمية خياراً تجميلياً للأنظمة الصحية، بل أصبحت عصباً حيوياً يمكنها من التطور والتوسع بكفاءة عالية. تمثل الحوكمة الرقمية في القطاع الصحي ركيزة أساسية لتحويل التحديات إلى فرص ولضمان استدامة النظام الصحي، هذه الحوكمة لا تقتصر على إدخال الأنظمة الإلكترونية في المستشفيات، بل تشمل استراتيجية متكاملة تجمع بين إدارة البيانات، وتبسيط الدورة المستندية، ورفع مستوى المساءلة والشفافية، على سبيل المثال: إلغاء الحاجة إلى التواقيع الورقية المتعددة، واستبدالها بالتوقيعات الرقمية المعتمدة، ودمج الأنظمة الإلكترونية المختلفة في قاعدة بيانات موحدة تتيح مشاركة المعلومات بين جميع الجهات المعنية، ما يختصر الوقت المهدور في البحث عن البيانات أو تكرار إدخالها، وتتبع سير المعاملات إلكترونياً مما يقلل من فرص الفقد أو التأخير غير المبرر. هذه الإجراءات لا تقلل فقط من الزمن الضائع، بل ترفع أيضاً مستوى الشفافية والمساءلة، حيث يمكن تتبع كل خطوة في أي معاملة بشكل فوري ودقيق وهو ما تحتاجه الكويت لتجاوز أعباء البيروقراطية التي طالما أثقلت النظام الصحي.
من أمثلة الحوكمة الرقمية في القطاع الصحي «السجل الصحي الإلكتروني الموحد» للمريض الذي يمثل هذا المشروع خطوة محورية في توحيد البيانات الطبية لكل مواطن ومقيم في قاعدة بيانات مركزية تُحدث بشكل مستمر. هذا السجل يختصر زمن التشخيص والعلاج، ويمنع تكرار الفحوصات غير الضرورية، مما يقلل من التكاليف ويزيد كفاءة الإنفاق الصحي. وأيضا من الأمثلة تطبيقات حجز المواعيد والاستشارات عن بعد (Telemedicine) توفر هذه التطبيقات حلاً عملياً لتقليل أوقات الانتظار، خاصة في المستشفيات الحكومية التي تعاني من ازدحام دائم، كما تتيح للمريض استشارة الطبيب عبر تقنيات الاتصال المرئي، وهو ما يوفر الوقت والجهد، ويتيح الوصول للخدمات الصحية حتى في المناطق البعيدة أو في أوقات الطوارئ. وأخيرا فإن استخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص وتحليل البيانات يسهم في تحسين دقة التشخيص ورصد الأمراض المزمنة في مراحلها المبكرة، وهو ما يعزز الجاهزية الصحية على المستوى المحلي.
إن القطاع الصحي الكويتي يقف اليوم أمام فرصة تاريخية لإحداث نقلة نوعية ترتكز على التخطيط الصحي المستدام والحوكمة الرقمية. هذا التحول ليس ترفاً إدارياً، بل ضرورة وطنية لضمان صحة الأجيال القادمة وتعزيز مكانة الكويت ضمن الدول الرائدة في تقديم الرعاية الصحية. إن تطبيق الحوكمة الرقمية في إدارة القطاع الصحي له أثر مباشر على الاقتصاد الوطني، من خلال:
. توفير النفقات التشغيلية: تقليل الاعتماد على الورق، والأرشفة التقليدية، وتقليص حجم القوى العاملة المطلوبة لإنجاز المهام الروتينية.
. تقليل التكاليف الطبية غير الضرورية: بفضل وجود بيانات طبية دقيقة ومحدثة، يمكن تجنب الفحوصات المكررة والإجراءات العلاجية غير الضرورية، مما يخفف العبء عن ميزانية الدولة.
. رفع الإنتاجية الصحية: تسريع الإجراءات الإدارية يمنح الكوادر الطبية وقتاً أكبر للتركيز على مهامهم الأساسية، وهو ما ينعكس على جودة الخدمات الصحية المقدمة ورضا المستفيدين.
. تحسين جذب الاستثمارات: نظام صحي رقمي وشفاف يعزز ثقة المستثمرين المحليين والدوليين في قطاع الصحة الكويتي، ما يسهم في تحقيق مستهدفات رؤية الكويت 2035 في التنويع الاقتصادي.
باختصار، فإن الحوكمة الرقمية ليست فقط أداة لتبسيط الإجراءات، بل هي استراتيجية اقتصادية متكاملة تسهم في خفض النفقات، وزيادة كفاءة الإنفاق العام، ورفع مستوى الإنتاجية، وهو ما يجعلها عنصراً محورياً لتحقيق تحول نوعي في القطاع الصحي الكويتي.
تقديرات التوفير الاقتصادي من الحوكمة الرقمية في القطاع الصحي
1. تقليص الأعباء الإدارية وتوفير التكاليف التشغيلية: تم تخصيص 56 مليون دولار ضمن ميزانية وزارة الصحة (التي تبلغ حوالي 10 مليارات دولار لسنة 2024/25) لمشاريع التحول الرقمي، بما في ذلك ربط 28 مستشفى حكومياً بنظام تبادل معلوماتي موحد. من المتوقع أن تسهم هذه المشاريع الرقمية في تقليص دورة المعاملات الورقية بنسبة كبيرة (ربما٪50 أو أكثر) مما يخفض التكاليف البشرية والإدارية بقدر ملحوظ. إذا افترضنا تخفيضاً بنسبة٪30 في التكاليف التشغيلية لتلك الإجراءات، فإن هذا يعادل حوالي 16.8 مليون دولار سنوياً تدخر حكومياً.
2. تخفيض مدخلات الرعاية والزيارات غير اللازمة: تطبيقات المواعيد الطبية عن بعد والرعاية الوقائية الذكية يمكن أن تقلّص الحالات المتكررة والزيارات غير الضرورية للعيادات بنسبة تصل إلى 20–٪30 وفق تقديرات من تجارب عالمية مماثلة. كانت الكلفة السنوية لتقديم خدمات الرعاية التقليدية تقدر بنحو 500 مليون دولار، فإن التوفير المتوقع قد يصل إلى 100–150 مليون دولار سنوياً.
3. الفوائد الاقتصادية من الوقاية وتقليل الأمراض غير المعدية: تقرير منظمة الصحة العالمية يشير إلى أنه عبر تنفيذ حزم فعالة للوقاية من الأمراض غير السارية (مثل السكري والقلب)، يمكن أن تحقق الكويت فوائد اقتصادية تقدر بنحو 897 مليون دينار (حوالي 3 مليارات دولار) خلال 15 عاماً، مقابل تكلفة تنفيذ تقدر بـ343 مليون دينار (حوالي 1.1 مليار دولار)، أي عائد اقتصادي مرتفع جداً. إذا تم تحويل جزء من هذه الفوائد (مثلاً 20%) إلى شكل توفير سنوي عبر تحسين الرقمنة والحوكمة، فقد يعني هذا توفيراً مباشراً يقدر بما بين 150 و200 مليون دولار سنوياً، من خلال خفض الغياب عن العمل وتحسين الإنتاجية.
4. نمو السوق الرقمي الصحي وتوليد القيمة الاقتصادية: السوق الرقمي الصحي في الكويت حقق إيرادات 540 مليون دولار في 2024، ومن المتوقع أن ينمو ليصل إلى 1.85 مليار دولار بحلول 2030 بمعدل نمو سنوي مركب٪22.9. سوق حلول القلب الرقمية فقط يحقق حالياً حوالي 80 مليون دولار ومتوقع أن يصل إلى 278 مليونا بحلول 2030. هذا النمو يدعم التوظيف، والاستثمار في التكنولوجيات الصحية الذكية، ويزيد من عائدات الخدمات الصحية التي يتم تقديمها، ويسهم في تنمية القطاع الصحي كركيزة اقتصادية.
مع تطبيق الحوكمة الرقمية في القطاع الصحي الكويتي، يمكن تصور تحول جذري في مستوى الخدمات وجودتها. فالمستقبل القريب سيشهد تطويراً شاملاً في جودة الرعاية الصحية من خلال تحسين دقة التشخيص، وتقديم العلاج المناسب في الوقت المناسب، وضمان توفر الخدمات الصحية بشكل متكافئ في جميع المناطق. ستتقلص أوقات الانتظار في المستشفيات والمراكز الصحية بفضل الأنظمة الرقمية التي تدير المواعيد وتنظم الموارد بكفاءة أعلى، مما يرفع من رضا المرضى ويحسن تجربة الرعاية بشكل عام. كما ستسهم برامج الرعاية الوقائية المبنية على البيانات الضخمة في رفع معدلات الصحة العامة وتقليل معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة. ومع اكتمال هذه المنظومة الرقمية المتكاملة، سيكون بمقدور الكويت أن تتحول إلى مركز إقليمي للرعاية الصحية المتقدمة، ويرسخ مكانتها كدولة ذات بنية صحية حديثة ومعايير عالمية.
وختاماً، فإن الحلم بالكويت الجديدة ليس بعيداً، بل هو على مرمى خطوات حاسمة، إذا تكاتف الجميع من أجل قطاع صحي مزدهر، يليق بمستقبل هذا الوطن الطموح.