وجهة نظر: المبادئ القضائية في شأن ميراث القسائم الصناعية
يُعد انتقال حقوق الانتفاع بالقسائم الصناعية من المنتفع الأصلي إلى ورثته إحدى الإشكاليات القانونية المعقدة بالكويت، لاسيما في ظل غياب نصٍ تشريعي صريح يحدد الطبيعة القانونية لهذا الحق ومصيره بعد الوفاة. وقد تصدَّت محكمة التمييز لهذه الإشكالية، والتي أرست مجموعة من المبادئ القضائية الجوهرية التي حسمت الجدل حولها.
يهدف هذا التحليل إلى تسليط الضوء على حيثيات الحُكمين الصادرين في الطعنين رقمَي 950 و968 لسنة 2012 مدني، والحُكم الصادر في الطعن رقم 2531 لسنة 2017 مدني، والتي تُعد مرجعاً أساسياً في فهم الطبيعة القانونية للقسائم الصناعية وحق المنتفع بها.
الطبيعة القانونية للقسائم الصناعية: أملاك خاصة لا عامة
قضت محكمة التمييز بمبدأ مفاده أن القسائم الصناعية المملوكة للدولة لا تُعد من الأموال العامة، بل تُصنَّف ضمن أملاك الدولة الخاصة.
ويُعلَّل هذا المبدأ، بأن هذه القسائم تفتقر إلى عنصر «التخصيص للمنفعة العامة»، وهو ما يُميز المال العام. وبما أنها أملاك خاصة، فإنها تخضع لأحكام القانون الخاص في استغلالها وإدارتها، وتكون العلاقة بين الدولة والمنتفع علاقةً تعاقدية يحكمها عقد إيجار أو ترخيص مؤقت بالانتفاع.
هذا التكييف القانوني للقسائم الصناعية كان حجر الزاوية في رفض دعوى أحد الورثة التي طالب فيها بقسمة حق الانتفاع أو بيعه بالمزاد العلني. فلو كانت القسائم من الأموال العامة، لكانت غير قابلة للتصرُّف أو الحجز عليها، وهو ما ينسجم مع قرار المحكمة النهائي، لكن تكييفها كمال خاص يُلزم المحكمة بالتعمُّق أكثر في طبيعة الحق ذاته.
التمييز بين الحق الشخصي والحق العيني: جوهر الحُكم
أعطت محكمة التمييز أهمية قصوى للتمييز بين نوعَي الحقوق؛ ففي حين أن الحق العيني (كحق الانتفاع المنصوص عليه في المادة 944 من القانون المدني) هو حقٌ مباشر على الشيء يمنح صاحبه سُلطة استعماله واستغلاله دون تدخل المالك، فإن الحق الشخصي هو حق يقتضي تدخلاً من المؤجر أو المالك لإمكان ممارسته.
بناءً على ذلك، استقرت المحكمة على أن حق المنتفع بالقسيمة الصناعية هو حق شخصي، وليس حقاً عينياً. فالقسيمة مؤجرة للخصوم بموجب عقد إيجار، وحقهم عليها مقيَّد بشروط العقد، ومرتبط بوجود إذن أو ترخيص من الهيئة العامة للصناعة.
ونتيجةً لذلك، لا يمكن إعمال أحكام الملكية الشائعة على هذا الحق، سواء كانت القسمة العينية (بالفرز والتجنيب)، أو القسمة بالتصفية (بالبيع بالمزاد العلني)، فهذه الأحكام تنطبق فقط على الحقوق العينية الشائعة.
كما أكدت المحكمة أن المباني التي يقيمها المنتفع على القسيمة لا تُكسبه حقاً عينياً عليها، بل يظل مصيرها مرتبطاً بالعقد، حيث تؤول هذه المنشآت إلى أملاك الدولة دون مقابل عند انتهاء العقد أو فسخه. هذا المبدأ يمنع أي محاولة للمطالبة بملكية المباني بشكلٍ منفصل عن حق الانتفاع، ويؤكد أن الالتزام الأساسي للورثة هو الحفاظ على وحدة العين المؤجرة.
انتقال الحق بالإرث: شيوع في الالتزام وليس في الملكية
عند وفاة المنتفع، ينتقل حق الانتفاع بالقسيمة إلى ورثته «على الشيوع». إلا أن المحكمة أوضحت أن هذا الشيوع ليس «شيوعاً في ملكية عينية»، بل هو «شيوع في الالتزام». وهذا التضامن بين المستأجرين المتعددين يُستفاد ضمناً من شروط العقد، حتى وإن لم ينص عليه صراحة.
لقد استندت المحكمة في استنتاجها هذا إلى أن القسيمة أُجِّرت للورثة معاً من دون تخصيص مساحة لكل منهم على حدة، وأُلزموا جميعاً بالأجرة. وهذا التضامن يجعل الالتزام التعاقدي غير قابل للانقسام في مواجهة الدولة. وبالتالي، لا يجوز للورثة المطالبة بقسمة القسيمة عيناً أو ببيعها؛ لأن ذلك سيؤدي إلى تجزئة العين المؤجرة، وانقسام التزامهم المتضامن، مما ينشئ روابط عقدية متعددة مع الدولة دون سند من العقد أو موافقتها.
وبناءً على هذه الحيثيات، رفضت المحكمة طلب بيع حق الانتفاع بالمزاد العلني، مؤكدةً أن هذا الفعل يُعد تنازلاً عن حق الإيجار لم ينص عليه العقد، كما أنه مخالف للقانون رقم 105 لسنة 1980 بشأن نظام أملاك الدولة، الذي لم يُفصح عن جواز عرض القسائم الصناعية أو حق الانتفاع بها للبيع بالمزاد العلني، فالحق المخوَّل لهم هو الانتفاع فقط.
التزام الدولة وتحديد الأنصبة الإرثية
لم تذكر الأحكام القضائية بشكلٍ صريح وجود التزام على الهيئة العامة للصناعة بنقل حق الانتفاع إلى الورثة بشكلٍ إجباري، بل أظهرت أن دورها هو «إقرار» هذا الحق لهم، كما فعل المدير العام للهيئة عندما أصدر شهادة أقرَّ فيها بحقهم في القسيمة. هذا يوضح أن حق الورثة هو حق موروث عن مورثهم بناءً على عقد قائم، وليس حقاً تمنحه الهيئة من العدم.
أما فيما يخص الأنصبة الإرثية المحددة للورثة، فلم تتطرَّق الأحكام القضائية المرفقة إلى تفاصيلها. فالمدعي طلب توزيع حصيلة البيع عليهم كل وفق نصيبه المستحق، وهو ما يفترض وجود الأنصبة الشرعية دون أن تحددها المحكمة. ويعود السبب في ذلك إلى أن مسألة تحديد الأنصبة الشرعية من اختصاص محاكم الأحوال الشخصية، وليس من اختصاص المحكمة المدنية التي نظرت في النزاع حول طبيعة الحق الموروث وقابليته للتقسيم أو البيع.
خلاصة المبدأ
تُشكل هذه الأحكام القضائية مرجعية قانونية حاسمة، حيث أرست مبادئ واضحة حول الطبيعة القانونية للقسائم الصناعية المملوكة للدولة، وحسمت الجدل حول طبيعة حق المنتفع عليها، وتأكيدها على أنه حق شخصي، وبالتالي لا تنطبق عليه أحكام الملكية الشائعة. كما وضعت إطاراً واضحاً لانتقال هذا الحق إلى الورثة، مؤكدة أن التزامهم تجاه الدولة هو التزام تضامني وغير قابل للانقسام، مما يمنعهم من المطالبة بقسمة القسيمة أو بيعها.
ويُشير هذا الاستقرار القضائي إلى ضرورة إيجاد حلول توافقية بين الورثة لإدارة القسيمة بشكلٍ مشترك، بعيداً عن الدعاوى القضائية التي ثبت عدم جدواها.
* الرئيس التنفيذي - «أركان للمحاماة»