الأمن الدوائي... وقت يضيع وصناعة تبحث عن موقعها في الاستراتيجية الصحية

• الصناعات الدوائية ركيزة اقتصادية وصحية... لنغتنم الفرصة

نشر في 25-08-2025
آخر تحديث 24-08-2025 | 18:19
 محمد الجارالله

يُجمع الخبراء على أن الأمن الدوائي لم يعد مجرد قضية صحية، بل أصبح إحدى أهم ركائز الأمن الوطني والاقتصادي.

فالأزمات العالمية الأخيرة، من الجائحة الصحية إلى اضطرابات سلاسل الإمداد، أثبتت أن الدول التي تملك قاعدة صناعية دوائية متينة، قادرة على حماية شعوبها وضمان استقرارها الاقتصادي.

ومن هنا يبرز التوجه الحكومي الكويتي الأخير لتوطين الصناعة بشكل عام، والصناعات الطبية والدوائية بشكل خاص، كخيار استراتيجي لا يحتمل التأجيل.

لقد أكد سمو رئيس مجلس الوزراء في أكثر من مناسبة أن توطين الصناعة هو رهان المرحلة، وأن الكويت أمام فرصة تاريخية لإعادة صياغة بنيتها الاقتصادية بعيداً عن الاعتماد المفرط على النفط.

وتأتي الصناعات الدوائية في مقدمة هذه الرهانات، لارتباطها المباشر بصحة الإنسان وكرامته، ولقدرتها على خلق قيمة مضافة عالية وتوفير فرص عمل نوعية للشباب الكويتيين.

البعد الصحي: الاستثمار في حياة الإنسان

إن بناء صناعة دوائية وطنية ليس ترفاً تنموياً، بل استثمار في حياة الإنسان الكويتي. فالأمن الصحي يتطلب توافر أدوية أساسية ومستلزمات طبية بشكل دائم، بعيداً عن تقلبات الأسواق العالمية واحتكار الشركات العملاقة.

كما أن وجود مصانع دوائية محلية يتيح سرعة الاستجابة للأزمات، ويعزز قدرة النظام الصحي على التعامل مع الطوارئ والكوارث الصحية.

الأمر يتجاوز مجرد إنتاج الدواء، ليشمل أيضاً البحث العلمي، ونقل التكنولوجيا، وتدريب الكوادر الطبية والفنية. وهذا ما يجعل دمج الصناعات الدوائية في خطة وزارة الصحة بشكل واضح ومُلزم ضرورة وطنية، لا خياراً ثانوياً.

فالقطاع الصحي وحده قادر على استيعاب وتوظيف هذه الصناعات ضمن منظومة متكاملة، تضمن الجودة والرقابة وتوافر الدواء للمواطن والمقيم على حد سواء.

البعد الاقتصادي: صناعة للتصدير والتنويع

من الناحية الاقتصادية، تمثل صناعة الدواء أحد أكثر القطاعات ربحية على مستوى العالم. فحجم السوق الدوائي العالمي يتجاوز التريليونات، وتتنافس فيه الدول الكبرى على الحصص السوقية. وفي منطقة الخليج، ما زال الاعتماد على الاستيراد مرتفعاً، بما يرهق الميزانيات العامة ويزيد من فاتورة العلاج.

إن توطين صناعة الأدوية في الكويت، وتوسيع نطاقها ليشمل التصدير إلى دول الخليج والشرق الأوسط، سيحقق فوائد اقتصادية جمة:

1. تقليل الإنفاق الحكومي على استيراد الدواء.

2. جذب الاستثمارات الأجنبية ونقل التكنولوجيا الحديثة.

3. توفير فرص عمل نوعية للكوادر الوطنية.

4. تعزيز الميزان التجاري من خلال التصدير.

كما أن التعاون مع دول الجوار مثل السعودية والإمارات في مجال التبادل التجاري وتكامل سلاسل الإمداد سيُسرّع من تحقيق الاكتفاء الذاتي الخليجي، ويعطي الكويت موقعاً محورياً في الخريطة الدوائية الإقليمية.

التحديات والحلول

لا شك أن الطريق نحو بناء صناعة دوائية متكاملة ليس سهلاً. فالتحديات تشمل ارتفاع تكاليف الإنتاج، وصعوبة الحصول على براءات اختراع أو تقنيات تصنيع متقدمة، إضافة إلى المنافسة مع شركات دوائية عالمية تمتلك نفوذاً واسعاً. لكن هذه التحديات يمكن تجاوزها عبر حلول عملية:

• إصدار تشريعات داعمة تمنع الاحتكار وتمنح حوافز ضريبية وتسهيلات استثمارية.

• تأسيس شراكات استراتيجية مع شركات دوائية عالمية لضمان نقل التكنولوجيا.

• تخصيص صندوق وطني للبحث العلمي الدوائي، لدعم الجامعات والمراكز البحثية.

• تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار عبر شراكات حكومية – خاصة.

ما يميز المرحلة الراهنة هو أن الكويت تعيش مرحلة تفتح الباب أمام قرارات جريئة في الملفات الاقتصادية والتنموية. إن الفرصة المتاحة اليوم لا تُعوّض، وكل يوم تأخير يعني خسارة مادية ومعنوية. فالأرقام تشير إلى أن فاتورة استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية تُكلف الدولة سنوياً مئات الملايين من الدنانير، في حين أن الاستثمار في بناء مصانع وطنية قد يحول هذا العبء إلى مصدر دخل وفرص عمل.

لذلك، يجب أن يتم وضع جدول زمني واضح لتطوير الصناعات الدوائية:

• خلال 6 أشهر: إقرار التشريعات وتأسيس هيئة وطنية للصناعات الطبية.

• خلال عامين: إنشاء أول مجمع دوائي متكامل لإنتاج الأدوية الأساسية.

• خلال 5 سنوات: تحقيق الاكتفاء الذاتي الجزئي، مع تصدير جزء من الإنتاج إلى دول الخليج.

• خلال 10 سنوات: الوصول إلى اكتفاء شبه كامل، وتأسيس مركز إقليمي للبحث والتطوير الدوائي.

الخاتمة

إن بناء صناعة دوائية وطنية ليس مشروعاً اقتصادياً فحسب، بل هو خيار استراتيجي لحماية صحة المواطن وضمان مستقبل الأجيال القادمة.

وهناك مبادرات لعل أبرزها «دواكم» قدمها د. عبدالعزيز الجدعان. وفي ظل التوجه الحكومي الحالي، فإن إدراج هذه الصناعات ضمن خطة الصحة بشكل صريح وملزم، مع جدول زمني محدد، سيجعل الكويت في موقع الريادة خليجياً.

لقد آن الأوان لأن نُحوّل التحديات إلى فرص، وأن نستثمر في «الصناعة التي تحمي الإنسان» قبل أي صناعة أخرى. فالأمن الدوائي هو الضمانة الحقيقية لكرامة المواطن، وهو الاستثمار الأكثر رسوخاً في عهد جديد يضع الكويت على خريطة المستقبل بثقة وثبات.

* وزير الصحة الأسبق

back to top