وجهة نظر: الصبر (يبيله مزاج)
قد يعتقد البعض أن الرجل يكون صبوراً هادئاً لا تتلاعب به العواطف كلّما تقدم به العمر، وهو رأي ربما كان دقيقاً أو قريباً من الدقة في السنين الخوالي، أيام كانت بساطة الحياة وقيم المجتمعات وعدم تأثّر الغالبية بـ «كونكريت» المدنية تكرّس كلها سمات النضج في الإنسان كلما تقدَّم به العمر، وتقوده الى الهدوء والحكمة كلما اقترب من الشيخوخة.
وليس شرطاً أن تقود القناعة سلوك الإنسان بقدر ما كان الالتزام بالقيم هو السائد، فيكفي أن يصرخ الكبير على الصغير (عيب)، حتى يمتنع الصغير عن الفعل، من دون حتى أن يفكر بالخطأ الذي كاد يرتكبه، ويقتنع بضرورة الامتناع عنه، فالالتزام بقيم المجتمع التي يُعتبر كبار السن حماتها والمدافعين عنها كان يجعل الفئات العمرية المتوسطة والصغيرة تطيع هؤلاء الحماة والمدافعين دون التساؤل عن مدى صوابهم أو خطئهم، وهي قريبة نسبياً من القواعد الأخلاقية التي كانت تشكّل سلوك الدول وتحكم علاقاتها ببعضها أيضاً.
وما زلت أصرّ على أن سلوك الأفراد يؤثر ويتأثر بالسلوك الجمعي للمجتمع، وهو يؤثر ويتأثر بسلوك الحكومات أيضاً، ولو كان الكيان الصهيوني قد مارس كل هذا الإجرام في غزة بهذه الصورة العلنية، الغاية في السادية والهمجية، في خمسينيات أو ستينيات القرن الماضي، لما كان ذلك مقبولاً أو يواجَه بكل الصمت الذي نراه اليوم، ليس لأن هذا الكيان كان أقل وحشية في السابق أو أن رعاته كانوا ضد الوحشية فيما مضى، ولكن لأن الكبير كان مضطراً أن يقول للصغير (عيب) من أجل ديمومة مصالحه، من دون أن تتضرر، ولأن المجتمعات كانت تحتج بالعلن وبقوة، رفضاً لمثل هذه الجرائم.
أما اليوم، فالمسألة قد أصبحت (هدد)، وشريعة الغاب أصبحت السائدة، ومن يستطع فليفعل من دون حياء، ومن لا يستطيع فليتحجج بالقيم والأخلاق (والعيب)، أي أن القيم أصبحت شريعة الضعيف فقط.
وأنا لستُ في معرض كتابة مقالي هذا للحديث من مصيبة المصائب (جريمة غزة)، ولا عن الكيان المجرم المسمّى إسرائيل، لأني على يقين بأن جمع الظالمين دائماً بدد وأيامهم عدد، وأن الأرض التي تُسقى بالدم لا تدوم لمحتل، لكنني هنا أتحدث عن الاختفاء التدريجي لقيم وثقافة المجتمعات، وانتشار ثقافة مسخ في أرجاء الكرة الأرضية وبين كل المجتمعات بلا استثناء تدعو الى عدم الالتزام بأي خصوصبة وعدم الركون لأي قيم، وتبنّي ثقافة الفوضى والضبابية وتحويلها إلى قيم مجتمعية.