سقط عمداً

نشر في 22-08-2025
آخر تحديث 21-08-2025 | 17:27
 د. محمد عبدالرحمن العقيل

انتشرت في عصرنا «ثقافة الإسقاط»، التي يشار إليها عالمياً بمصطلح «ثقافة الإلغاء» (Cancel Culture) بوصفها ميلاً مجتمعياً إلى نبذ وإقصاء شخصية فكرية أو إصلاحية كاملة لمجرد وجود اختلاف جزئي مع بعض أفكارها أو قناعاتها. فيقوم البعض بإسقاط مكانة شخصٍ ما وإنكار إنجازاته لمجرد أنه تفوّه بعبارة لا تناسب أهواءهم، أو تبنّى رأياً لا ينسجم تماماً مع معتقداتهم. وفي هذا المقال سأكشف لكم بعض هذه الأسباب.

من أحد العوامل البارزة هو ما يسميه علماء النفس «Black and White Thinking» أو التفكير القطبي المتطرّف. هذه الآلية الإدراكية تعتبر من التشوهات المعرفية التي تقود صاحبها إلى رؤية الأمور في صيغ متطرفة بلا درجات وسطى. يميل الشخص في هذه الحالة إلى تصنيف الآخرين ضمن فئتين لا ثالث لهما: إما معي تماماً أو ضدّي تماماً. مثل هذا التفكير قد يجعل الفرد يُحوِّل شخصاً ما فجأةً من خانة «الشخص الجيد» إلى خانة «الشخص السيئ» بناءً على خلاف واحد.

ويوضح المتخصصون أن من يتبنى نظرية «كل شيء أو لا شيء» يقع في دورات من المثالية المفرطة تجاه الآخرين، يعقبها التحطيم الكامل لهم! مما يصعّب الحفاظ على علاقات صحية. وأنا شخصياً أعرف من كان مغرماً بأحد الدعاة الكويتيين ثم انقلب عليه عدواً لدوداً، لأنه قال بعض الآراء التي لم تعجبه، فنسف مكانته العلمية نسفاً! لأنه لا يتمتع بمنطقة «رمادية» محايدة في نظامه الفكري، والتي تجعله أكثر وعياً وتمييزاً لما يقال، وأين يضع الرأي، ومتى يترك ومتى يَتجاهل وكيف يفسر.

وقد نشرت «Brown University» بحثاً في علم النفس السياسي يشير إلى أن التعصب ضد الآراء المعارضة – من كلا الجانبين المحافظ والليبرالي – يرتبط بشدة بعدم تحمل الغموض واليقين المفرط لدى الأفراد. أي أن الأشخاص الذين لا يطيقون وجود «مناطق رمادية» يميلون أكثر إلى رفض الآخر تماماً. وهكذا يمكن لثقافة الإسقاط أن تتحول إلى حلقة مفرغة.

وأحياناً تنشأ هذه الظاهرة من التفكير الثنائي المصحوب بنزعة نفسية تتطلع إلى الكمال، فبعض الأشخاص – بحسن نية أحياناً – يبحثون عن نموذج بشري خال من العيوب والنقائص. وكأنهم ينصّبون أنفسهم «مفتّشي الكمال»! وهذا طلب مستحيل التحقيق، لأن الخطأ صفة إنسانية لازمة. فالإنسان مزيج من الصواب والخطأ.

ومن الناحية الاجتماعية، نجد أن «ثقافة الإسقاط» في البيئات التي تضع ولاءات فكرية أو عقدية صارمة، يصبح أي رأي مختلف «ولو فقهياً» بمنزلة تهديد للهوية الجماعية أو خيانة للمبادئ، فينشأ ما يُعرف بـ «Us vs. Them Mentality».

عزيزي القارئ، إن ثقافة الإسقاط ما هي إلا انعكاس لعدم التسامح مع النقص الإنساني ومع التنوع الفكري.

والسؤال المهم: لماذا نستطيع أحياناً أن نفصل بين علم أو «إبداعات» شخص وبين آرائه عندما نحبه أو يكون من جماعتنا، ونعجز عن ذلك مع شخص آخر؟! هذا يبين أن «ثقافة الإسقاط» كثيراً ما تكون انتقائية وتحكمها الأهواء والانتماءات أكثر من المبادئ.

back to top