التكنولوجيا والأيديولوجيا: صراع أم تكامل؟
تتغير حياتنا بوتيرة غير مسبوقة بفعل التقدم التكنولوجي، حيث غيّرت الآلات ووسائل التواصل من خلالها الطريقة التي نعمل ونعيش ونتفاعل من خلالها. من هنا، ثمة تساؤل يُلحُّ: هل يمكن لهذه التكنولوجيا أن تُنهي سطوة العقائد التي عاش عليها الناس قروناً؟ وهل يمكن للخوارزميات الحديثة أن تهزم القناعات المتجذرة في الوجدان؟
الأيديولوجيا هي منظومة من المعتقدات التي تمنح الإنسان هويةً وانتماءً، وتساعده على التفاعل وتحديد القيم والمعايير التاريخية والدينية والثقافية التي يهتدي بها. في المقابل تسير التكنولوجيا في خط مباشر وسريع، لا تلتفت إلى الماضي ولا تكترث بالضوابط والقيم، بل تمضي نحو الكفاءة دون اعتبارات وجدانية، مؤثرة في التعليم والاقتصاد والإعلام والأمن.
ينشأ من هذا التباين تنافر مبدئي بين تكنولوجيا «عقلانية جامدة» تنشد المستقبل بأي ثمن، وأيديولوجيا «وجدانية نابضة» ترى ألا مستقبل بلا جذور وقيم، في صراع بين رؤيتين للعالم: واحدة تمجّد التقدّم، وأخرى تُؤمن بأهمية الإرث والمبدأ.
في الظاهر يبدو أن العالم شهد خلال العقود الأخيرة انتصاراً للتكنولوجيا على الأيديولوجيا والمعتقدات التقليدية الراسخة في مجالات عدة، حيث أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً وصول المعلومة بسرعة ومرونة متجاوزة الإعلام التقليدي، وفتحت منصات التعليم الإلكتروني المعرفة للعالم بأسره متحررة من القيود الأكاديمية والأطر المؤسساتية، كما شكّلت العملات الرقمية تحدياً للأنظمة المالية المركزية، وهددت تقنيات الذكاء الاصطناعي دور القاضي البشري المرتكز على النصوص والقيم والاجتهاد. أما في المجال العسكري، فقد أسهمت الأسلحة الحديثة مثل الطائرات بدون طيار والصواريخ الذكية، والهجمات السيبرانية، في إضعاف تأثير الأيديولوجيات الدينية والعقائدية على موازين القوة، فاتحةً عهداً جديداً يظهر فيه تفوق الكفاءة التكنولوجية في النزاعات والصراعات.
في حقيقة الأمر، لا تزال المعركة بين الآلة والفكرة مفتوحة ومتشعبة، فالذكاء الآلي لا يعمل من غير الذكاء البشري، في حين أن التأثير الخوارزمي لا ينعزل عن الميول البشرية والقناعات الفكرية وأنماط الاستهلاك. فنحن لا نعيش في فضاء رقمي «محايد»، بل نُقاد عبر منظومات ذكية تُعيد تشكيل تصوراتنا واختياراتنا دون أن نشعر. ومع ذلك، لم تنتصر أي تقنية حتى الآن على الأفكار الحيّة، إذ إن القوة الذكية لم تنتصر بعد على الحس الوطني أو قناعة الاستشهاد، والتفوّق العسكري لم يكسر إرادة الشعوب، والقبضة الرقمية لم تقضِ على الشعور البشري بمقاومة الظلم والانتقام من الظالمين.
وهنا تظهر المفارقة الكبرى، الناس يحتاجون للتكنولوجيا، لأنها تسهّل الحياة، وتُوجد الرفاه، لكنهم ــ في الوقت ذاته ــ لا يمكن أن يعيشوا ولا أن يستمروا دون فكرة تمنحهم شعوراً بالانتماء، وتحدد لهم الأهداف، وتربطهم بالجذور والقضايا المركزية. التكنولوجيا تُغري بالعقلانية، بينما الأيديولوجيا تتناغم مع الوجدانية.
المستقبل إذاً، ليس في السؤال عن «من ينتصر؟»، بل عن «كيف نعيش؟». هل يمكن أن نصل إلى توازن يحترم عقل الإنسان ووجدانه معاً؟ هل يمكن أن يحصر إطار التكنولوجيا في خدمة الإنسان، بدلاً من أن تفرض عليه طريقة تفكيره؟ وهل تستطيع الأيديولوجيات أن تنفتح على التحديث دون أن تفقد جوهرها؟
الصراع مستمر، لكن ربما يكون الحل في الجمع بين الأداة والهدف، بين الكفاءة والمعنى، فالعالم لا يحتاج إلى آلات فطينة فقط، بل إلى أفكار عميقة تتحكم في الذكاء الآلي بأخلاق وقيم وضوابط، لتقوده نحو العدالة دون جنوح السيطرة أو هيمنة المصلحة.
* كاتب ومستشار قانوني