إنهم يغتالون الكلمة والصورة لأنهم يخافون الرواية *
في صباح لم يبدأ بعد، رغم أن الصباحات والمساءات في غزة متشابهة حدّ الوجع المزمن، فلا شيء سوى المزيد من القتل والتجويع والمرض والصواريخ، ورصاص القناصة يصطاد الأطفال كما الكبار وهم يقفون عند طوابير لمساعدات قد لا تصل، بل هي مصيدة أخرى ضمن خدع حرب الإبادة، هناك، وفي ذلك الصباح استمروا في مطاردة الرواية التي هي بالنسبة لهم كما المقاوم أكثر خطورة على كيانهم الهش من القنبلة.راحوا يغتالون الكلمة ويبيدون الصورة، أو هكذا تراءى لهم، رغم أن أنس الشريف وزملاءه محمد قريقع، وإبراهيم ظاهر، ومؤمن عليوة، ومحمد نوفل، ليسوا أول ولا آخر من تطارده آلات إبادتهم، لأن مجرم الحرب يعمل دوماً على طمس الحقيقة التي ستدينه مرّة ومرات.
الصباح مثقلٌ بالدخان والدم، وبين أنقاض حي الزيتون في غزة، كان أنس الشريف يحمل كاميرته، كما يحمل المقاوم بندقيته، لم يكن مجرد صحافي، بل كان عيناً للناس، وضميراً حياً في زمن التواطؤ.
وبينما كان يوثّق لحظات القصف الإسرائيلي على المدنيين، استُهدف أنس بشكل مباشر، رغم وضوح هويته الصحافية، ورغم أنه كان يرتدي سترة الصحافة. اغتيال أنس لم يكن حادثاً عرضياً، بل رسالة واضحة؛ مَن ينقل الحقيقة يُقتل.
لقد وثّق أنس، في أيامه الأخيرة، مشاهد الأطفال تحت الأنقاض، وصرخات الأمهات، ودموع المسعفين، فصار هو نفسه مشهداً من مشاهد الألم الفلسطيني.
أنس ورفاقه ليس الأول ولن يكون الأخير طالما حرب إبادتهم ومخططاتهم مستمرة، ورغم أن الأعداد للإعلاميين والصحافيين الفلسطينيين تطول وتطول، فإن هناك آخرين كثر لم تدوّن أسماؤهم. ولم تكن حروب إبادتهم للكلمة تقف عن حدود الأرض التي احتلوا واستعمروا، بل طالت الصحافيين في مدن وبلدان كثيرة، فلم يكن غسان كنفاني الأول ولا الأخير الذي مُزقت أشلاؤه في بيروت، بل هناك إعلاميون وكُتّاب فلسطينيون طاردتهم آلة الموت الصهيونية في أحياء وبلدان بعيدة.
الصهاينة يحاربون السردية، كما يغتالون ذاك الشيخ المتمسك بشجرة زيتونة وجرافاتهم تقتلعها من الأرض، متصورين بأنهم بذلك يقضون على الزرع والإنسان معاً. إلا أن الأرض تنبت الزهر والزيتون والمقاومة، كما تنبت شقائق النعمان في سهول وجبال فلسطين.
تردد تلك المذيعة السؤال على ضيفها مجرم الحرب مرتدي البدلة وربطة العنق المزركشة: «لماذا لا تسمحون للصحافيين الأجانب ومراسلي وكالات الأنباء ومحطات التلفزة الأوروبية والأميركية بدخول غزة؟» فيعيد هو - كما غيره من مجرمي حرب الإبادة - نفس الإجابة الممجوجة، التي تتكرر منذ أكثر من سبعين عاماً، لتبقى سرديتهم هم فقط لا غير لها، حتى أن كثيراً من العرب صدقوها وأعادوا ما تنشره الجيوش الإلكترونية الصهيونية، وهي المسيطرة على إعلامهم أيضاً، بل حتى على كثير من المؤسسات الإعلامية الأميركية والأوروبية.
ألم تفتضح الروايات في «نيويورك تايمز» عندما نتعرف على أن الصحافيين في تلك الجريدة وكثيراً من العاملين في غيرها كانوا جنوداً في جيش الاحتلال؟!
وفيما هي تكرر السؤال لأكثر من ضيف، قامت مجموعة من 200 من الصحافيين والمراسلين الأجانب بتوقيع عريضة تطالب بالسماح الفوري لهم بالدخول لتوثيق ما يجري، معززين طلبهم بأن هذا المنع يشكّل تعتيماً ممنهجاً، وهو يمسّ جوهر حرية الصحافة والإعلام التي نصت عليها الاتفاقيات والمواثيق الدولية، وأهمها المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
كما أشاد هؤلاء الصحافيون والصحافيات بشجاعة الصحافيين الفلسطينيين الذين يواصلون العمل رغم الجوع والقصف، وفقدان أفراد عائلاتهم، مؤكدين أن الدفاع عن حرية الصحافة في غزة هو دفاع عن الحقيقة في كل مكان.
عمل هؤلاء الإعلاميون المهنيون ربما على إعادة التذكير بدورهم وفي ظل تعتيم وتزييف للحقائق سقطت فيه كثير، بل ربما كل مؤسساتهم، ففي ظل الأزمات والحروب يتطلع المراقبون للإعلام ليكون مرآة حقيقية للواقع، إلا أن الإعلام الغربي كشف عن انحياز تلك المؤسسات، بل تواطؤها في إعادة تكرار الخطاب الصهيوني.
فمؤسسات كبرى مثل «نيويورك تايمز»، و«بي بي سي»، و«سي إن إن» تبنّت في كثير من تغطياتها حتى في المصطلحات والمفردات ما يساوي الضحية بمجرم الحرب، مثل «اشتباكات» بدل «قصف»، و«مقتل صحافي» بدل عن «اغتيال صحافي»، متجاهلة كل تاريخ هذا الكيان منذ احتلاله لفلسطين ومخططاته التوسعية التي لم تكن أكثر وضوحاً منها اليوم ورئيس وزراء الكيان ومسؤوليه يرددون مزاعم عن «حقهم» التاريخي في الأرض من النهر إلى النهر!
وهنا ساهمت تلك المؤسسات وغيرها حتى الكثير من الهيئات الإعلامية العربية في اغتيال الصحافيين والإعلاميين الفلسطينيين مرتين؛ مرة عندما أصابتهم صواريخ جيش الاحتلال، ومرات عندما يعيدون تكرار الرواية الصهيونية.
هنا يصبح الصمت الإعلامي أو التزوير شركاء في جريمة الإبادة والتطهير العرقي، ويصبح الإعلام كالقذيفة «الذكية»، آلة حرب تغتال الحقيقة كما يغتالون هم أهلنا في فلسطين ولبنان وسورية و...و...و... و!
* يُنَشر بالتزامن مع الشروق المصرية