بالعكس: رمونا في البحر يا ريس...
في لقاء جمع بيني وبين الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، قلت له «رمونا في البحر يا ريس»، ردّ قائلاً: «مين اللي رماكم بالبحر؟ وإزاي؟!»، قلت له: «الكيان الزفر أباد غزة ورماها بالبحر»، فرد قائلاً: «أولاد الوسخة! ونيكسون عمال يقول العرب هما اللي عاوزين يرموا إسرائيل بالبحر! وإن إسرائيل ما تهددش العرب ولا عاوزه ترميهم بالبحر! كنت عارف انها بروباغندا صهيونية من اللي بيعملوها علينا»، فرديت عليه قائلاً: «ايوا يا ريس، أنا سمعت خطابك في عيد الثمان-طاشر لعيد ثورة 23 يوليو في سنة 1970، وجيت اقولك ايه اللي حاصل اليوم»، فرد قائلاً: «عشان تكون عارف بس، أنا يوميها مسكتلهوش ارجع واسمع كلامي، لكن اسمع يا علي، بيني وبينك، حيترموا بالبحر بس مش اليوم، فرديت عليه طيب يا ريس أنا استأذنك وخرجت».
وفي ممر طويل إذ بباب مكتب مفتوح وصوت خارج منه لرجل، وما إن نظرت إليه إذ هو ممسك بورقة في يده ويقرأ منها ويقول: «إنها ساحة حرب مشتعلة، تمتحن فيها انتصارات العدو وآماله وقيمه، ليس بوسع العدو أن يقول إنه انتصر عليها، فالاحتلال ليس هو النصر النهائي، وليس بوسع العدو أن يطمئن إلى آماله، فالأمر الذي يسعى إلى خلقه هناك على خرافة الزمن يصطدم بسخرية الزمن، وتتفتت آمال الغزاة في أزقتها وأجساد أبنائها».
فاستدركت نفسي، وطرقت الباب، والتفت إلى الرجل وإذ هو الأستاذ محمود... فعرفته بنفسي، وطلب مني الجلوس ريثما ينهي قراءة الورقة التي بيده، فطلبت منه أن يكمل قراءتها كما كان بصوت مرتفع فابتسم، وقال: «حاضر يا علي».
وذهب إلى قرب نافذة المكتب، ونظر إلى الخارج وهو يرفع نظارته الطبية «ذات العدسات العسلية»، وينظر بالورقة ويقول: «وليس بوسع العدو أن يتباهى بقيمه، إنها تتبلور في صيغتها الحقيقية الوحيدة، الجريمة، لم تعد غزة مدينة، صارت رمزاً لطاقات العرب، وصارت لافتة للمستقبل، وغزة التي يصفها العدو دائماً بالكابوس في تاريخه الأسود، هي طيف الأمل الأبيض للعرب، ليست غزة كفارة ذنوب كما يقول البعض، ولكنها نموذج عمل وإعلان إرادة، يأتي يوم لا تكون فيه غزة، اسماً نادراً بين الأسماء».
وهنا نظر إلي وقال: «تفضل يا علي»، فرديت عليه: «استوقفتني جملة سمعتها وأنا أمشي أمام مكتبك وأنت تقول فيها: غزة كل يوم، غزة كل يوم»، فرد قائلاً: «إنه عنوان لمقالي سينشر في عدد الصحيفة ليوم غد (2 ديسمبر 1971)، يحمل اسمي المتواضع محمود درويش».
وبدون احمّ أو دستور، إذ برجل يدخل ويقول: «إن سقوط غزة كارثة وطنية، وإن إسرائيل تود إلغاء الآخر، باعتدائها على الفلسطينيين وقياداتهم، وإن ذلك لا ينهي الحركة الفدائية أو المقاومة، لا بد أن يكون هناك فهم للواقع والعدوان، كي لا تبقى الأمور والمواقف ارتجالية أو مرتكزة على أوهام وتخيلات»، وما إن أنهى حديثه إذ هو بـ ميشال أبوجودة.
وهنا استيقظت على صوت إشعار منبه الأخبار لهاتفي، وبرسالة تحمل خبراً لرئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو بأنه «متمسك جداً برؤية إسرائيل الكبرى» - التي تشمل الأراضي الفلسطينية، وربما أيضاً مناطق من الأردن ومصر بحسب صحيفة تايمز أوف إسرائيل - فرجعت بالذاكرة إلى حرب الأيام الستة في يونيو سنة 1967.