المثقف... بين صمت الراحة وصخب التفاهة

نشر في 15-08-2025
آخر تحديث 14-08-2025 | 19:29
على المؤسسات الثقافية أن تخلق مساحات للفكر الجاد، وعلى الجمهور أن يُدرك أن المجتمع لا يُبنى بالمشاهدة الصامتة، بل بالبحث عن المعنى، والمشاركة فيه، والحقيقة المُرَّة أن كل «تمريرٍ للأعلى» نحو محتوى فارغ، هو خطوة للأسفل في سلّم الوعي.
 بدور المطيري

«إذا تكلَّم المثقف، ارتجفت العقول، وإذا صمت، عمَّ الصخب»... عبارة كُنت أسمعها وأنا أخطو خطواتي الأولى في عالم الصحافة. كان المشهد حينها مليئاً بالمفكرين والأساتذة الذين يقودون النقاشات في الندوات والمؤتمرات، وكُنا نسمع منهم «باجر تكبرون، وجيلكم سيكون أقدر على الفكر والنقاش».

كبرنا، لكننا لم نجد سوى منابر ثقافية شبه خالية، وأصوات قليلة تلاشت وسط ضجيج أسرع من الفكرة. في الماضي، كان المثقف يزعزع المألوف، يُوقظ الأسئلة، ويصنع من حضوره منارة تهدي المجتمع إلى التفكير السليم. اليوم، حين أصادف أحد الأساتذة الكبار، أسأله بحسرة: «وينك أستاذ؟»، فيبتسم مُتهكماً: «البركة فيكم»، لكن الحقيقة أن تسليم الراية لم يكن عادلاً، بل أخذنا على حين غرة إلى عصرٍ سريع الإيقاع، جعل كثيراً من أبناء جيلي يكتفون بدورالمتفرج، وكأن العُزلة خيار مريح في زمنٍ صاخب.

لكن هذا الصخب لم يأتِ من فراغ، فقد حلَّ مكان المثقف نجومية من نوعٍ آخر، نجومية «مؤثر السوشيال ميديا»، الذي لا يحمل مشروعاً فكرياً في الغالب، بل يتحوَّل إلى إعلان بشري متحرِّك، يقضي المشاهد أمامه ساعات من التمرير إلى الأعلى، ليكتشف في النهاية أنه لم يضف شيئاً لعقله، بل استهلك وقته ووعيه. هنا لا يُقاس التأثير بعُمق الفكرة، بل بقدرة المحتوى على دفعك للاستهلاك، مادياً كان أو معنوياً.

في كتابه «نظام التفاهة»، يشرح المفكر الكندي ألان دونو كيف تنحسر قيمة الفكرة أمام هيمنة الرداءة وسطوة المعايير السطحية، حيث يُصبح النجاح مرهوناً برضا السوق لا بعُمق الطرح. هذا الواقع لم يفرض نفسه وحده، بل ساهم فيه المثقف - عن وعي أو تقصير - حين تنازل عن دوره، وترك الساحة لمحتوى يلمع في الظاهر، لكنه فارغ في الجوهر.

النقاش الجاد أصبح اليوم ضيفاً ثقيلاً في زمن يُقاس التأثير بعدد المتابعين والإعجابات، ومع انسحاب المثقف امتلأ الفراغ بمَنْ يختزل الأفكار المعقدة في شعارات سريعة، أو يحوّل الحوار إلى استعراض شخصي وهكذا، يفقد المجتمع شيئاً فشيئاً مناعته الفكرية، ويُصبح أكثر قابلية لتصديق أي خطابٍ مرتفع النبرة، مهما كان هشاً.

وما يزيد الأمر خطورة، أن الأجيال الجديدة تكبر في بيئة رقمية سريعة الإيقاع، حيث يُستهلك المحتوى كما يُستهلك الخبر العاجل، لحظات من الانتباه، ثم نسيان كامل. وإذا لم يجدوا مثقفاً يملأ هذا الفضاء بوعيٍ وطرحٍ جاد، فسوف تترسخ معايير السطحية، ويُصبح العُمق استثناء لا قاعدة.

في زمن يقوده التمرير للأعلى، لا عُمق الفكرة، تتحوَّل النجومية من أصحاب الفكر إلى صُناع الاستهلاك، ويقف المجتمع أمام سؤال: هل نمنح المثقف فرصة للعودة؟

ومع ذلك، العودة ممكنة، لكنها تتطلَّب جرأة المثقف على مغادرة عُزلته، وتعلُّم لغة توازن بين العُمق والوضوح، وتستثمر المنصات الحديثة لا كتنازل، بل كجسرٍ يصل الفكرة إلى الناس.

المسؤولية مشتركة، فعلى المثقف أن يخرج من صمته، وعلى المؤسسات الثقافية أن تخلق مساحات للفكر الجاد، وعلى الجمهور أن يُدرك أن المجتمع لا يُبنى بالمشاهدة الصامتة، بل بالبحث عن المعنى، والمشاركة فيه، والحقيقة المُرَّة أن كل «تمريرٍ للأعلى» نحو محتوى فارغ، هو خطوة للأسفل في سلّم الوعي.

السؤال اليوم لم يعد هل سيعود المثقف؟ بل هل نحن مستعدون لإفساح مكان له قبل أن تبتلعنا التفاهة بالكامل؟

back to top