قاوم حصارك *

نشر في 11-08-2025
آخر تحديث 10-08-2025 | 18:11
 خولة مطر

بين مرض السرطان والصهيونية شكل من أشكال التقارب، لذلك يسمِّي البعض الصهيونية بالسرطان، الذي يتسلل بين الخلايا في الجسد، في حين تبدأ الصهيونية بحركةٍ صغيرة مخفية لتنتشر، فتقضم الأرض، وتُبيد مَنْ عليها من أهلها الأصليين، بل تحوِّل الرواية، لتبدو هي وكأن وجودها حق، والآخر هو المعتدي والإرهابي. هكذا هو السرطان، تتسلل خلاياه المريضة لتفترس الخلايا الصاحية، ومن هنا تبدو المعركة والمواجهة متشابهة. وهنا يبدو التشابه، وربما لأننا كبرنا في صراعٍ مستمر مع الاثنين، فالأول يصطاد الأحبَّة، والثاني يُبيدهم ويسرق أرضهم وما عليها، ثم ينتقل إلى أرضٍ أخرى وبلدٍ آخر، وهكذا من دون توقف، فيما يتصوَّر البعض أن المشروع الصهيوني لا يتعدَّى حدود فلسطين، وهم - أي الصهاينة - في إعلامهم ومنتدياتهم يردِّدون: «من النهر إلى البحر»!

يشكِّل السرطان في الوعي الجمعي رمزاً للمرض الذي يغزو الجسد بلا استئذان، يهاجم الخلايا، ويغيِّر مسارات الحياة، ويُلزم الأفراد بخوض معركةٍ طويلة تتطلَّب الصبر والأمل والتضامن.

في المقابل، يظهر الاستعمار الصهيوني في فلسطين كنموذج للهيمنة والاقتلاع الممنهج للهوية والأرض، ويمثل صراع الوجود والإرادة في وجه مشروعٍ استعماريٍ استيطاني.

لعل أنسنة التجربة الإنسانية تجعلنا نستلهم من مواجهة السرطان كمرض بعض الدروس، لفهم مقاومة أشكال الاستعمار، حيث يشكِّل كل منهما تحدياً للهوية والبقاء والكرامة، ويفرض على أصحاب الحق تبني منطق الصمود والمواجهة. وفي الحالتين - أي السرطان والصهيونية - تبدو المواجهة جماعية، وليست فردية. ففيما يُقاوم مَنْ نُحب السرطان، يبقى على المُحيطين مهمة بقاء الإرادة في المقاومة، وليس الاستسلام للمرض، ومحاولة أن تنتصر الحياة على الموت هي متشابهة.

فبنظرة سريعة على أهلنا في غزة لا يستطيع أي إنسان حقيقي سوى أن يستلهم منهم ومنهن الدروس في الصبر والصمود والمقاومة. معظم جيلنا كبر في بيوت تعرف معنى ذاك الغرس الذي زرع في خاصرة أوطاننا، بل ربما في قلبها. كانت كُتبنا ومعلمونا وأهلنا يسردون قصص المجازر المتتالية في فلسطين حتى قبل قيام كيانهم في عام 1948. فقامت العديد من المنظمات الصهيونية بما يقرب من 57 مجزرة قبل 1948، منها 37 في نفس ذاك العام، بل إن كثيراً من المجازر كانت في نفس اليوم، وقد انضمَّت معظم المنظمات الصهيونية الإرهابية إلى الجيش الإسرائيلي، ومنها مَنْ شكَّل عناصر لواء غولاني، أحد أكثر ألوية هذا الجيش شراسة ودموية وفاشية. وبعضنا عرف عذابات ذاك المرض الذي كان يفضِّل أهلنا أن يسموه بـ «الخبيث»، بدلاً من تسميته باسمه. كيف ينتقل بين خليةٍ وأخرى، وكيف ينتشر في الجسد، ليقفز من جهازٍ إلى آخر، فيما ينخر في مناعة المُصاب، والنكبة الكبرى أن العلاج أكثر عذاباً في الكثير من الأحيان وفتكاً من المرض نفسه.

كيف استطاع العلم أن يتطوَّر سريعاً، لينتج أكثر المُعدات العسكرية فتكاً، فيما عجز عن إيجاد دواء يواجه المرض؟ كيف؟ نبقى حائرين ونحن نتابع ما يقومون به من اختراق لكُل الحواجز والأجهزة، ليبيدوا أهلنا في فلسطين ولبنان، فيما يقف الطبيب أمام مَنْ نحب يردِّد: «لا خيار سوى العلاج الكيماوي»، عارفاً بأن في العلاج الكثير من الألم والقليل من الأمل!

هو نفسه ذاك الأمل الذي كلما اشتدت فيه حرب إبادتهم في غزة برز وجه طفل بين الأنقاض يسرق الابتسامة، فيبشر بأنهم منتصرون حتماً بكثيرٍ من الموت، والجوع، والدمار، والفقدان. سينتصرون. وهو أيضاً عندما تجد مَنْ تُحب وهو يذبل تدريجياً أمام عينيك، والخلايا السرطانية تقفز بين تفاصيل جسده. تقف لتقول: قاومه لتنتصر عليه، حتى لو لبضع سُويعات. وتقفون كلكم تنثرون المحبَّة وبعض الفرح في وجه المرض، لأنهم علَّمونا أن في الوحدة قوة، وأن المحبَّة تزيد من مناعة النفس والجسد فيقاوم.

نفعل هنا كما علَّمنا درويش، نحاصر حصارنا (حصار الصهاينة والسرطان)، ونربي الأمل، نزرعه بذرة لتكبر، وإن لم نقطفه نحن، فسيقطفه غيرنا، ويمضون به بعيداً.

* يُنَشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

back to top