تحدي استرداد الأموال السورية المنهوبة
في ظل الاستبداد وغياب دولة القانون والشفافية والحُكم الرشيد، تعرَّضت سورية خلال أكثر من خمسة عقود لعمليات نهبٍ ممنهج للأموال والممتلكات العامة والخاصة، والتي تم الاستيلاء عليها بطُرق غير مشروعة، سواء تم تهريبها خارج الحدود، أو بقيت داخل الدولة.
وازدادت عمليات تهريب الأموال خارج سورية خلال سنوات الحرب، مع لجوء الفاسدين وتُجار الحرب إلى تهريب الأموال، من خلال اتباع وسائل وطُرق متعددة عبر قنوات غير قانونية، سواء مصرفية أو غير مصرفية تماثل طُرق غاسلي الأموال في تحويل أموالهم إلى ملاذات مصرفية ومالية أكثر أماناً، لتجنب الرقابة المصرفية والمالية الدولية مع ازدياد عمليات مكافحة غسل الأموال على الصعيد الدولي، خصوصاً مع وجود نظام للعقوبات على سورية.
ومن أهم الطُّرق التي هُرِّبت بها الأموال خارج سورية، هي التحويلات النقدية عبر شبكات معقدة في السوق السوداء، والاستثمارات العقارية والتجارية في عددٍ من الدول العربية والأجنبية، وشراء السلع ذات القيمة الباهظة، كالذهب والمجوهرات، التي يسهل إخراجها إلى الدول المجاورة، وبيعها، ثم تحويلها إلى موجودات نقدية يسهل التعامل بها.
تعتمد آليات استرداد الأموال المنهوبة، من خلال التجارب الدولية السابقة، على ضرورة توافر إطارين، الأول هو الإطار الوطني، من خلال نشر الوعي لتعزيز ثقافة الشفافية ومكافحة الفساد، وإحداث لجنة وطنية لاسترداد الأموال المنهوبة مهمتها التحقيق في قضايا الفساد السابقة، وإيجاد بنك معلومات وطني لرصد جميع الأموال المنهوبة وتتبعها، سواء وطنياً أو دولياً.
والإطار الثاني، هو الإطار الدولي، الذي يعتمد على تفعيل التعاون مع مختلف الدول والمؤسسات المالية والجنائية الدولية، وعقد اتفاقيات ثنائية معها لتتبع تلك الأموال وتجميدها، ثم تسهيل تحصيلها لمصلحة الخزينة العامة للدولة، وأهم تلك المنظمات، منظمة العمل المالي الدولية، والإنتربول، ومنظمة الشفافية الدولية، ومكتب الأمم المتحدة المعني بالجريمة والمخدرات، والشبكة الدولية لهيئات استرداد الأموال المنهوبة، والبنك الدولي، وغيرها من المنظمات الدولية ذات الصلة.
كل ذلك يحتاج، بلا شك، إلى جهودٍ حثيثة ومنظمة، وخبرات قانونية ومالية، إضافة إلى إصدار تشريعات وطنية، أو إجراء إصلاحات تشريعية، لتمكين وتسهيل عمليات استرداد تلك الأموال.
ولابد من الإشارة إلى أن قضية استرداد الأموال تواجهها العديد من التحديات، سواء القانونية أو الإجرائية على الصعيدين الوطني أو الدولي، كضعف المؤسسات القضائية والمالية الوطنية، لعدم وجود الخبرات أو التشريعات الكافية، والتباين الموجود بين التشريعات الوطنية وتشريعات الدول الأخرى التي تفرض معايير صارمة تجاه التعاون لاسترداد تلك الأموال، خصوصاً في ظل طغيان الاعتبارات السياسية في هذه المسائل، فضلاً عن إشكالية السرية المصرفية التي تحتج فيها الكثير من الدول والبنوك الدولية، والتي تحول دون التمكُّن من الحصول على المعلومات البنكية المتعلقة بالمودعين، وخاصة الفاسدين منهم، مما يجعل موضوع إخفاء الأموال وصعوبة التعرُّف عليها أهم تلك التحديات التي تواجه مسار تتبع الأموال المنهوبة واستردادها بصورة قانونية.
يُعد استرداد الأموال المنهوبة من أهم مسارات مكافحة الفساد على المستوى الدولي. وفي سورية، فإن الموضوع يتجاوز الإطار المالي للدولة إلى مسألة تمس الشعور الوطني، باعتباره موضوع عدالة وكرامة وطنية، وهنا تبدو أهمية تفعيل دور المجتمع المدني في تتبع ومراقبة قضايا الفساد ونهب الأموال، سواء سابقاً أو لاحقاً.
كما تشكِّل القضية تحدياً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً أمام الحكومة السورية، باعتبار أن الاسترداد يمثل مورداً حيوياً يُسهم في عمليات إعادة الإعمار، وتعزيز الثقة بالاقتصاد السوري، وانطلاق خطط التنمية في مرحلة بناء الدولة الجديدة، كما أنه تكريس للشفافية، وركن رئيسي في مسار العدالة الانتقالية المنتظر على الصعيد الوطني.
* أستاذ جامعي ومستشار قانوني – لندن