عزاء زياد... يوم تصويت
منذ إعلان وفاة زياد الرحباني، انطلقت مئات مقاطع الفيديو عنه وعن عبقريته الفنية وتفكيره النقدي للواقع السياسي اللبناني والعربي البائس.
ساهم حدث الموت في تعريف ملايين الشباب العرب، الذين ربما لم يعرفوا زياد وموسيقاه الحديثة والمتطورة جيداً، وذلك خلال مراسم العزاء الاستثنائي، وما أعقبها من أيام.
لكن ماذا فعل زياد حتى يقف لبنان – وكُل مُحبيه في أوطان أخرى - على رجله يوم رحيله؟
قد يجيب الموسيقي والشاعر والفنان عن هكذا سؤال، لكن تأصيل حقيقة بارزة لا تتغيَّر مهما مرَّ الزمن على العطاء البشري يُصبح ضرورياً هنا، وهي أن الإنتاج الفني الممزوج بعبقرية فذة ومعرفة بالمكان وساكنيه، والتشرُّب من الإنتاج العالمي والنزول إلى الشارع والجلوس مع الفقير والمعوز والغني واللص والمنافق والشريف هو الذي صنع شخصية كزياد. كل ذلك امتزج مع خصوصية ابتُلي بها في سنوات حياته - التي لم يهاجر بها خارج لبنان المكلوم - بين العائلة والزواج والعلاقات الإنسانية والحروب والقتال الطائفي والأفكار السياسية التقدُّمية، وغيرها، التي صنعت هذا الإنسان المختلف.
عزاء زياد - الذي تَسيَّدت فيه فيروز، ورسمت لوحة «الحزن النبيل» رسالة لكل مَنْ يقتحم الشاشة الصغيرة أو الفضية وأي شاشة صدئة أخرى بأداءٍ رث، فالحشود التي أتت من كُل حدبٍ وصوب ما هي إلا تصويت على الفن الرفيع، ورفض كل مَنْ يغني ويرقص ويخلع ملابسه على المسرح، ويقدِّم إسفافاً، ويجني بعدها مالاً، وينام في بيته وكأنه حقق فتحاً فنياً.
معظم ما تقدِّمه الطبقة الفنية اليوم في المحيط العربي لا قيمة له، لأنه لا ينبع من كلمة موزونة، ولا من لحن يَركِز في الأرض، ولا من أداء صادق. وأعتقد أن موت زياد قد أوصل رسالة مؤثرة لكثير من هؤلاء المتبضعين في سوق الفنون وأغرقوه نتانة، فعبقرية هذا الإنسان هي التي أنزلت فيروز من «صوت الجبل» يوم احتضنه الأخوان الرحباني إلى «جاز المدينة» الصاخبة، كما في «كبيرة المِزحة هَيْ».
المسألة الأخرى التي تجعل من زياد مختلفاً، هي إحساسه بكُل ما يُحيط به، ومحاكاته لكل شيء من حوله: الآلة الموسيقية، والحالة السياسية، والتقاتل الطائفي والحروب، والنفاق الاجتماعي، و«القرف» من الحياة، واقتناص التفاصيل... وتوظيف كُل ما سبق في لحنٍ وكلمةٍ ومسرحيةٍ ومقطوعةٍ موسيقية.
تذكرت على الضفة الأخرى من الموت رحيل الفنان الكبير عبدالحسين عبدالرضا. وقتها شعرت، كغيري، أن الكويت صمتت لأيام لاستيعاب صدمة ألا نرى «بوعدنان» ثانية! فهو المؤلف والممثل والمغني... هو قائد فذ لا يتكرَّر.