العودة للوعي... غيبوبة فقدان الذات العربي!
أخطر المراحل التي مرت وتمر على الأمة العربية والإسلامية بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي ومستمرة حتى اليوم، أي لنصف قرن، مرحلة كافية لهدم القيم وانهيار الإنسان وزوال الدول وتغيير الثقافة والتعليم، وتبدد الوعي الذي أحدثه خواء البنية القيمية والتعليمية والأخلاقية والاقتصادية، أو قبول استبدالها والتعاطي مع ذلك، فصارت الأمة العربية والإسلامية كمن دخل غيبوبة يعيش على الإنعاش والمسكنات، بل وحرص حلفاؤهم على زيادة كمية المسكنات لإشعارهم بخطورة خروجهم من حالة الإنعاش، فلازم ذلك حالة إدمان المسكنات والإنعاش والخوف من المجهول، ومن ثم التنكر للأصالة والقيم والتراث والحضارة والعلم والثقة بالذات، فاستمرت الغيبوبة حتى بلغت مرحلة النسيان، وفقدان الوعي بالهوية وقدرة التفوق الذي ما زالت تمتلكه، فصارت خيالات المآتة، وبقيت رهينة للغير وتحت مظلته، وغدت جسداً بلا حياة، وصار كلٌّ على «مولاه»، أسياده يعيدونه للوعي من غيبوبته القيمية والحضارية متى شاؤوا، وبدأت هذه المرحلة مخاضها بهزيمة 1967، والتي كانت بمنزلة فصم للرأس عن الجسد، وكانت نتيجة طبيعية لحالة ضياع وتشتت، على أثر حركات تحرر وطنية عارمة اجتاحت الوطن العربي، فحادت عن الطريق القويم لحظة انفصامها عن هويتها، فولجت متاهات البحث عن مرجعية جديدة لجسدها وروحها، فركبت موجات القومية والثورجية فالشيوعية والاشتراكية والبعثية والليبرالية، وكلها كانت إمعاناً بفصل الرأس والإبقاء على الجسد، وعند تفحص الجسد تجده عربياً وإسلامياً تنبض في عروقه روح الأصالة المميزة، لكنه هزيل ومقعد ولا يفارق سريره من شدة الإعياء والتعب، فالرأس مغيّب أو غُيّب، والنتيجة واحدة الرأس في غيبوبة فقدان الذات، ولا قيمة للجسد وإن كبر حجم رقعته وتعددت أعضاؤه.
وأمام الانتكاسة في العقل والحس والوعي، حدثت حرب أكتوبر 1973، فظنها العقل انتصاراً، أو هكذا كان فهمه لها، رغم أنه يعيش على مسكنات وإنعاش يفصله عن إدراك الواقع، والحقيقة عكسية فالحرب هزيمة وتوسّع للكيان الصهيوني المحتل في الجولان وسيناء وغور الأردن، وتقهقر وتراجع للأمة.
ثم جاءت لحظة مفاجئة من العودة للوعي الذهني والصفاء القيمي والتشبث بالهوية، حينما جاء قرار حظر البترول العربي عمن يعادي الأمة العربية والإسلامية، ويقف ضد مصالحها وقضيتها المركزية (فلسطين)، مرحلة لم يمهلها الغرب أشهراً قليلة، فقضى عليها وعلى جذوتها ومحركها.
ودخلوا في غيبوبة مبرمجة، بأطروحات التعايش والهدن والأرض مقابل السلام، فتمخضت عن ذلك اتفاقية كامب ديفيد، وتوالى الإمعان في الغيبوبة فتمت اتفاقية وادي عربة، حتى سقطت البندقية وغصن الزيتون معاً، من جسد خيال المآتة، فجاءت القاصمة المسماة «اتفاق أوسلو» الذي شرعن الاستسلام والانسلاخ عن الذات والهوية والقيم العربية والإسلامية في الوحدة وصون المقدسات وجذوة المقاومة، وساد التطبيع، ومنحت سلطة على الورق ودولة بالاسم، لتمر عليها ثلاثون سنة ونحن نعايش وجودها الورقي ودولتها الصورية، والواقع يتجه لهيمنة وتوسّع واستيطان ينهي كل احتمال ووجود لفلسطين، بل ولدول عربية مستقبلاً، إذ صار الانقضاض على الجسد الهزيل، بلا رأس بسبب غيبوبته، سهلاً وميسراً، وهو واقع امتدت مرحلته نصف قرن من الزمان، حتى جاءت مرحلة «صفقة القرن»، «والشرق الأوسط الجديد».
لكن، طبيعة الكيان التوحشية الانتقامية سببت زلزالاً، حرك ذلك الجسد الهامد، وعلى نحو مفاجئ أفاق العقل، الذي تغالبه حالة اللاوعي بسبب كثرة المسكنات وطول أمدها، لكنه أفاق جزئياً «بمآسي غزة»، وكان ذلك وحتى اللحظة كافياً لإنعاش جسد أمته الهامد، دون حاجة إلى أجهزة الأعداء وخبرائها.
مرحلة مفصلية وحاسمة في تاريخ الأمة وصراعها، فإما عودة الرأس للوعي كاملاً فيُنعش جسده بالوحدة والتماسك وتوظيف القدرات - بعد حرب ومآسي غزة الكارثية، والتي أعادت الوعي للعالم بأجمعه، ومن ثم أحدثت تغييراً لأمتنا وأجيالها المغيّبة، أو تترك أعضاءه، التي أدمنت السكون والمسكنات، لتركن لأجهزة الإنعاش الغريبة المعلبة، فتعود الغيبوبة الكاملة وفقدان الذات.
بانتظار لحظة إفاقة فريدة للأمة، أو حدوث ما لا ندركه بالتفكير ولا بالتحليل من حيث لا نحتسب، وما ذلك على الله بعزيز.