شارل نصّار ومتحف الشظايا
للمرة الرابعة أزور متحف الشظايا، وللمرة الألف يزداد شعوري بالانبهار، وكأنني في كل مرَّة أتلمَّس الإبداع فيه لأول مرَّة، ويتجدَّد لدي الشعور بالراحة النفسية والمتعة البصرية والدهشة الفكرية.
في بلدة رمحالا الجميلة، الساكنة في غابات الصنوبر بمحيط «عالية»، هناك مكان استثنائي لا يشبه أي متحف تقليدي. يكفي أن تأتي إليه بقلبٍ مفتوح، وعينٍ قادرة على التأمل، لتشعر أن قيمة الإبداع فيه لا تثمَّن بتذكرة دخول متواضعة السعر، ولا بزيارة تقليدية لمنحوتات حديدة، بل تتجلَّى في كل ما يحتويه من ذائقة فنية، ووداعة استقبال، وتواضع شارل نصّار، الفنان الذي لا يضاهيه أحد فيما جنت يداه!
في حضن الطبيعة التي لا يعكِّر سكونها إلا حفيف الشجر وخرير المياه، يسترخي المتحف على سفح التلال، كأيقونة هادئة للفن العفوي، شاهداً على قدرة الإنسان على تحويل الألم إلى معنى، والحديد إلى حياة. هناك، لا ينتهك حرمة الصمت سوى موسيقى الطبيعة، ولا يقيّم الفن سوى بصدق التجربة.
متحف شارل نصّار لا يُشبه غيره، لا في محتوياته ولا في فكرته، لأنه - وبكل بساطة، وعُمق - فعل انتقال من الألم إلى الأمل. فشارل الذي لا يمكن اعتباره فناناً تقليدياً، هو من القلائل الذين عجزت جراح الحرب الأهلية عن إيقاف إبداعهم أو تحطيم طموحاتهم، لأنه قرر أن يواجه قسوة الماضي بصلابة الحاضر وإشراق المستقبل، فجمع شظايا المعارك، وبقايا الحديد، وقذائف الأيام السوداء، وصاغ منها فناً نابضاً بالروح، ومعبِّراً عن كل طقوس الحياة.
ما يُعرض في متحف الشظايا لا يُقدَّم ترفاً بصرياً فحسب، بل يأخذك في تجربة وجدانية تؤكد أن الجمال ليس حكراً على الرخام الناعم أو الألوان الزاهية، بل يمكن أن يولد من قسوة المعدن ومن ذاكرة الصدأ، ففي كل قطعة من القطع الرائعة، دعوة للتأمل، وإثبات حيّ على أن الإنسان، حين يؤمن، يستطيع أن يصنع من أنقاضه أفقاً جديداً.
التجوُّل في هذا المتحف أشبه بنزهة في غابة ساحرة من منحوتات تنبض بالجمال: وجوه، رموز، أشكال، بشر، حيوانات، فراشات، وكثير مما يعبِّر عن قصص صامتة، فبين كل قطعة وأخرى، تشعر أنك تقرأ فصلاً من كتاب عن لبنان الحقيقي: ذاك البلد الذي قاوم، ونهض، وما زال يئن ويحلم.
*****
زيارة متحف الشظايا ليست مجرَّد جولة بين منحوتات حديدية، بل لقاء دافئ مع إنسان يصنع الفن كما لو أنه يروي سيرة حياة. شارل نصّار لا يتعامل مع زواره كـ «جمهور»، بل كضيوف على بيته المفتوح وقلبه المرحّب، ولهذا لا تُزار حديقته الفنية إلا عبر حجز مسبق من خلال موقعه www.shazaya.com، ليكون هو بنفسه في الاستقبال، حرصاً منه على أن تكون الزيارة شخصية ومفعمة بالمعاني الإنسانية، لا يعكِّرها أي اعتبار مادي، ولا استعراض إعلامي. فالفنان المتواضع يرافقك في الجولة، يروي لك بهدوء القصص التي خرجت من رحم الحديد، ويكشف لك كيف يمكن للألم أن يتحوِّل إلى شكلٍ فني ينبض بالحياة. هكذا تكون التجربة: حوار بين إنسانين، تناغم بين الطبيعة والفن، بعيداً عن ضجيج الإعلام والإعلان، وبلا وساطة ولا تصنُّع.
*****
لمن يبحث عن لبنان الإبداع، بعيداً عن العناوين البراقة والتجارب المكررة، فليبدأ من رمحالا... حيث صارت الشظايا لغة أمل، وحديد الحرب مادة للحياة.
* كاتب ومستشار قانوني