لا تسألني عن الإنجاز... افتح لي الباب
قرأت مقال د. محمد الجارالله عن «جيل ما بعد الغزو وما قبله»، وشعرت أن هناك شيئا يلحّ في داخلي لأكتب، لا من باب المجادلة أو العتب، بل من باب الإنصاف، لأن الحديث عن الأجيال يجب ألّا يُختزل في حكم واحد، ولا أن يُروى من زاوية واحدة.
جيل السبعينيات والثمانينيات عاش العصر الذهبي للكويت، كانت البلاد «عروس الخليج»، والفرص توزّع بسخاء، التعليم مجاني، بل حتى الغذاء والملابس المدرسية مجانية، والبعثات تُمنح بلا شروط معقّدة، بل إن أحد الأقارب يروي أن صديقا له بكى لأنه لم يُبتعث معهم إلى أميركا، بل إلى بريطانيا، رغم أن نسبته 55 بالمئة! كانت الطمأنينة جزءا أصيلا من تفاصيل الحياة اليومية.
وأي شاب في ذلك الوقت وظيفته مضمونة، بل يتدلل في اختيار المكان والإدارة، أما القسائم السكنية فهي حق ستأخذه خلال عامين أو خمسة على الأكثر.
أما نحن، فقد فتحنا أعيننا على بلد مُنهك من الغزو، وسط تحولات اقتصادية وسياسية لا ترحم، دخلنا سباقا نجري به ولا نعرف مَن وضع قواعده. رواتب محدودة لا تتناسب ومعدلات التضخم، سوق مكتظة بالخريجين بتخصصات اختارها الجيل السابق وفرضها علينا، عقارات بأسعار تعجيزية، البيت بالنسبة إلى جيلنا حلم بعيد المنال.
دخلنا مؤسسات لا تعترف بالكفاءة بقدر ما تكافئ الولاء والمحسوبية، كم من فكرة قدّمناها بصدق، جلس أمامها المسؤول يبتسم، ثم وضعها في الدرج خوفا من أن يبرز غيره.
وسأقولها بجرأة: نحن لا نحمل ضغينة لأحد، لكن من المؤلم أن نرى جيلا تقلّد المناصب في عزّ عطائها، ثم حين حان وقت التجديد، لم يُفسح المجال لمن بعده، بل سعى لتوريث المواقع لأبنائه وأقاربه، وكأن المنصب حق شخصي لا مسؤولية وطنية، في المقابل، تم إقصاء الكثير من أصحاب الكفاءة، فقط لأنهم لا يملكون ظهرا.
ورغم كل هذا، لم نستسلم، وكثير منّا أطلقوا مشاريعهم من الصفر، حصلوا على شهاداتهم بجهودهم وبأموالهم الخاصة، وحققوا نجاحات لافتة دوليا في مجالات متعددة. لم ننتظر الفرصة، بل صنعناها بأيدينا.
ثم يقال عنا إننا «جيل المظاهر»، لكن المظهر لم يُولد معنا. جيل السبعينيات أيضا أحب الظهور، وكان يتباهى بالسيارات الأميركية، والساعات الفاخرة، وقصات الشعر المستلهمة من نجوم الفن، (الأفرو والفيس بريسلي) الفرق الوحيد أن أدوات التعبير تغيّرت، في صحفهم القديمة نقرأ عن زوايا بعنوان «التعارف»، وأخبارالمجتمع عمّن سافرت إلى أوروبا أو اشترت سيارة، كانت تلك هي «السوشيال ميديا» بصيغتها الورقية، نحن لم نختر تغيير الوسيلة، بل واكبناها.
وإن كان لا بُد من تذكير، فالدكتور الجارالله نفسه تولى وزارة الصحة في سن الرابعة والأربعين، حين كانت الفرص مهيأة، والدولة منفتحة على تمكين الشباب. جيله صاغ القوانين، ونحن نحاكم اليوم على نتائجها، دون أن نكون طرفا في صناعتها.
حين نطالب اليوم بحياة كريمة، لا نطالب بالبذخ، بل بالعدالة، نريد بيتا لا يأتي بعد عشرين سنة، ووظيفة تُمنح لمن يستحق، لا لمن يعرف فلانا أو علّانا، لا نبحث عن صراع أجيال، بل عن شراكة، الجيل السابق يملك الخبرة، ونحن نملك الطاقة، الوطن لا يبنيه جيل واحد، بل ينهض إذا آمن الجميع بدورهم.
يا سيدي الفاضل... نحن لا نبحث عن التبرير، بل عن الاعتراف بواقع مختلف. لا نطلب المستحيل، فقط أن يُنظر إلينا بإنصاف، كجيل لم يكن مدللاً، بل مثقلا بقوانين لم يصُغها هو، لكنه يُحاسب اليوم على نتائجها. جيل أُقصي عن صياغة القرار، ثم لاموه لأنه لم يواكب التغيير، جيل يحاول أن يصنع له مكانا في وطن أحبه، ويؤمن بأنه قادر على العطاء إن أُعطيَ الفرصة، لا أكثر.
يا سيدي الفاضل... لا تسألنا عن الإنجاز، بل افتح لجيلنا الأبواب.