عن الاغتراب البيئي... القرآن والبيئة (1/ 4)

نشر في 06-08-2025
آخر تحديث 05-08-2025 | 18:02
 د. سلطان ماجد السالم

لنضع النقاط على بعض الحروف الأخريات ها هنا. أنا لستُ برجل دين، ولستُ متخصصاً في العلوم الشرعية الإسلامية البتة، وكل ما أعرفه بهذا المجال نابع إما من تعلُّم ذاتي، أو من علمٍ منقول من أصحاب الاختصاص، بارك الله فيهم جميعاً.

لكنني كُنت دائم الحرص على أن أبدأ أي لقاءٍ أكون أنا المسؤول عن تنظيمه، ويكون اللقاء علمياً فنياً تخصصياً في مجالات الهندسة، بآية قرآنية كريمة تعلَّمتها من أحد زملائي في العمل. وكُنت أناقشه بمعانٍ مختلفة لهذه الآية الكريمة، حتى بعد ساعات العمل الطويلة. وأبقيت على تلك العادة لسنوات طوال، متعمداً استهلال لقاءات المؤتمرات والندوات العلمية بتلك الآية القرآنية الكريمة، حيث يقول المولى، عز وجل، في كتابه الحكيم: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (سورة الروم - 41). تلك الآية الكريمة طالما هزت في وجداني الكثير من الأمور، فالقرآن له وقع في الصدور يصعب على الإنسان أن يشرحه مهما كان بليغاً لغوياً. لعل هذا هو الإعجاز الحقيقي للقرآن الكريم حين يستمع له المرء، ويحلل معانيه، ويكتشف أموراً وأموراً مخفية، ومسائل لا تخطر له على بال بتاتاً.

بحُكم التخصص والاهتمام كذلك على الصعيد الشخصي، لاحظت أن موضوع البيئة والمحافظة عليها والالتزام بمعايير واضحة إزاء المساءلة، ليست بالمواضيع التي تُطرح في الكتابات القديمة إلا بالنزر اليسير، وفي مواضع قلة تكاد تكون معدومة. فهناك مَنْ كتب عن البيئة والتنبؤ بدمارها، وأشياء هكذا، لكن في حقب متباعدة وإشارات أكثر بُعداً.

هذا الكلام حقيقةً لا ينطبق على القرآن الكريم، والذي سأتناوله هنا ككتاب سماوي موجود ومحفوظ بين أيدينا وصدورنا لأكثر من أربعة عشر قرناً. وهنا تأتي الصدمة الحقيقية، فعلى الرغم من تناول القرآن الكريم للتشريعات والقصص والمسائل المختلفة التي تتصل بتنظيم الحياة، فإنه تناول بوضوح أثر البيئة، وأهميتها، وتأثير الإنسان عليها، بإشارات واضحة للعيان.

أليس هذا يُعد إعجازاً حقيقياً، خصوصاً أن يُطرح قبل أربعة عشر قرناً من الزمان؟! وبعد الرجوع إلى سورة الروم في المصحف (وهي سورة مكية باتفاق العلماء)، نجد أن الآية 41 واضحة وصريحة جداً في طرحها، كما أسلفنا في فقرة سابقة.

ظهور الفساد في الأرض واضح وصريح هذه الآية، ومتصل - سبحانك يا رب - بفعل البشر ذاتهم، أي هو ذاته تعريف التلوث البيئي وإنتاج النفايات الذي نطرحه في زمننا هذا بعلوم الهندسة، وهو نتاج بشري، في إشارة واضحة أن مصبات البيئة (البر والبحر) مسؤوليتك أنت يا ابن آدم.

تتمة الآية الكريمة، وفق تفسير الإمام ابن كثير، هو ابتلاء الناس بنقص الأموال والخيرات، وصولاً إلى انقطاع الأمطار. حسناً، أليس هذا ما يُدرَّس اليوم في أرقى الجامعات حول العالم، بسبب التلوث البيئي، وتوابعه، وصولاً إلى التغيُّر المناخي والاحتباس الحراري؟! من أين أتى الرسول العربي الأمي بهذا الكلام، إن لم يكن من وحي إلهي أكبر منّا كلنا؟! مَنْ علَّم النبي محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، ترابط عناصر البيئة؟!

أتمنى أن تكون هذه السلسلة انطلاقاً لبحثٍ تمحيصي أكبر في قادم الأيام، والله كريم، وهو المستعان.

back to top