زياد... ضحكاتك أزهرت زهراً *
«لو عددت درجات بيتي وكم من مرةٍ صعدتُها لكان هذا درجاً طويلاً يخترق السحب، وَلو عددت ضحكات أمي لي لرافقتني طوال صعودي ووقعتْ من بعدي الضحكات على الدرج وأزهرتْ زهراً»، «إن لم أكن فرِحاً لا أستطيع أن أصلّي ما مِن مرةٍ صلّيتُ إلا وفي قلبي عصفورٌ يلعب وغصنٌ يلوّح». (زياد الرحباني).
كنا نتمشى متسكعات كعادتنا بعد نهاية يوم دراسي طويل في الجامعة الأميركية في بيروت، فما أن ينتهي اليوم بعد الظهيرة حتى نهرول باتجاه شارع الحمرا، ونبدأ المشوار بين الموكا أو الومبي ثم سينما ثم مشي بين المحلات في ذاك الشارع الصاخب نراقب الأرواح المتنقلة بانبهار المراهقات القادمات من الخليج للتو.
التقينا وتعارفنا في بيروت كالكثير من دفعتنا في ذاك العام، إذ لم نكن بنفس المدارس أو ربما من نفس الحي. هي المتمردة في شكلها وطبعها وربما كان لنصفها اللبناني دور في ذلك فقد كانت من أب بحريني وأم لبنانية مربية عرفتها كثيرات من الطالبات والمعلمات ونساء المجتمع، هي التي رحلت سريعاً وبقي اسمها هناك ضمن القائمة من المربيات العربيات اللاتي تركن بصمة في مشوار تعليم البنات ليس في البحرين فقط، بل في كل الخليج.
خرجنا من البوابة الرئيسية للجامعة واتجهنا مسرعات حتى شارع عبدالعزيز صاعدات باتجاه الحمرا، وهناك في طرف الشارع كانت سينما «أورلي» التي استوقفنا البوستر فلم يكن لفيلم بل لمسرحية «نزل السرور»، وفي حين اندمجنا في التشاور والحديث عن كيفية حضور المسرحية التي كتب عنها الكثير خصوصاً في جريدتي المفضلة «السفير» لكونها تنتهي بعد موعد إغلاق أبواب سكن الطالبات «مبنى 56»، حينها جاءنا صوت من الخلف ينبهنا أنه قد تكون هناك عروض «متنيه» وفيكم تحضروا، وما إن التفتنا للتعرف على مصدر الصوت المتلصص لمحادثة شخصية بين صديقتين فوجئنا بعينين تلمعان خلف نظارة طبية لشاب ربما في عمرنا نحيل جداً. إنه زياد صرخت هي أو ربما أنا، وكان نجم زياد الرحباني قد بدأ يبرز وكنا قد تعرفنا عليه عبر ما سمعناه وكُتب عنه.
وكأي مراهقتين وقفنا صامتتين، ثم قالت هي، بلهجة أمها اللبنانية: «بدنا نحضر المسرحية بالليل بس ما فينا بسبب السكن الداخلي» ولا أعرف أو لا أتذكر ما حدث سوى أنه ونحن افترقنا سريعاً ربما لخجلنا وانشغالاته. مرت سنوات طويلة وأنا نادمة كثيراً أننا لم نستفد من الحدث، فقد كان أو هكذا تصورنا أنه كان يريد أن يقدم لنا تذكرتين هدية، بعدها أصبح زياد جزءاً من تفاصيل أيامي كما كان حال الكثيرين من جيلي وما بعد بعده، وعرفت أن هذا العبقري لحّن في سن مبكرة جداً أغنيات ستبقى ضمن التراث الموسيقي والثقافي العربي لا اللبناني فقط.
بعدها قرأت أن والده عاصي مرض وطلب منه أن يلحن واحدة من أهم أغنيات السيدة الأيقونة فيروز وهي «سألوني الناس». تركت أنا وهي بيروت في لحظة على عجل نلملم بقايا بقايانا في الذاكرة والقذائف تستوطن سماوات لبنان حتى هربت العصافير منها. وسيبقى زياد وتلك الذكرى عالقة في بقايا صور بيروت رائعة الجمال، بل المبهرة.
وسيبقى زياد رفيق درب في الجمل وبين الفواصل والكلمات فلا يمكن أن تستمر في محادثة دون أن تتذكر عبارة له هنا في إحدى مسرحياته أو مقابلاته أو حتى كتاباته بعد ذلك في جريدة الأخبار. وعند أول عودة لي إلى بيروت بحثت عنه وكنت أنتقل من «بلونوت» إلى أماكن أخرى، كان يغني أو يعزف بها بين جمهور محبيه أو مهرجانات مثل بيت الدين حين لم يترك المناسبة تمر دون تعليق على بعض السياسيين الذين تربعوا على المقاعد الأولى كعادتهم.
في ذات يوم حضرت الفرصة التي انتظرتها طويلاً وأخذني الصديق إبراهيم الأمين معه في زيارة لزياد في بيته بالحمرا، وكانت ليلة تشبه زياد لم يتغير منذ أن التقيته قبل سنين طويلة، لا في الكلام والموقف وطريقة الانتقال من حديث لآخر أو التعليق الساخر ولا حتى في مواقفه من كل هذا العالم شديد القبح. كأن زياد لم يكبر، بقي هو المتوهج بوجع الأرض ومن عليها، الملتصق بالفقراء وكل البشر الحقيقيين مثله بعيداً عن التزييف والتملق. لذلك عندما جاء خبر رحيله وتابعت جنازته من شارع الحمرا حتى بكفيا حزنت ببعض الفرح لأن محبيه وكل مَن تأثر به ومنه قد قام بوداعه بما يستحق هو. ولايزال الكثيرون ينبشون كلمة له هنا ولحناً هناك وموقفاً بينهما. رحل زياد الباقي هنا كملح الأرض هو.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية