بالمختصر: «المرايا لا تعكس الوجوه... بل تكشف ما لا يُقال»
حين رأيتني كلّي لأول مرة وقفتُ أمام مرآة ترى مفرق الرأس إلى أخمص القدم. لم تكن مجرّد تجربة بصرية... بل لحظة وجود. رأيتني لا كما كنت أرى... رأيتني واقفاً في فراغ السؤال: هل هذا أنا؟ هذا الذي أدار ظهره لطفولته، ونسي وقفته القديمة، واستعار جسداً أكبر من ملامحه. مرايا تتكلم المرايا أدواتٌ في الظاهر... لكنها في الباطن «كائنات شاهدة». لا تخون، لا تجامل، لا تسامح... بل تُظهر لك ما لا يجرؤ الناس على قوله.
في اليابان القديمة، كانت المرايا تُقدَّم للعرائس كي «يرين أنفسهن كل صباح قبل أن يصبحن مرآة للآخرين»، أصل النرجسية ونرجس... والنظرة الأولى المميتة كان نرسيسوس (Narcissus) فتى جميلاً لا يرى في الدنيا أجمل من نفسه. اقترب من ماءٍ ساكن فرأى صورته، ففتن بها... وظل يحدّق، ويتغزّل، حتى ذَوى ومات. أسطورة تقول إنه غرق في صورته، لكن الحقيقة: غرق في وهمها. النرجسي لا يحبّ نفسه كما هي، بل كما تبدو في المرايا المزيفة. مرآة الملكة... وطفلة الثلج في حكاية «سنو وايت»، تسأل الملكة الساحرة مرآتها كل يوم: «من الأجمل في الوجود؟» فتقول: «أنتِ، حتى ظهرت سنو وايت». المرآة هنا ليست زجاجاً... بل سلطة تأكيد. من يطلب من المرآة أن تبايعه كل صباح، هو في الحقيقة أضعف من أن يواجه ذاته. مرآة الروح... لا ترى، قال المتصوفة: «المرآة التي لا تنكسر... هي القلب الصافي».
والمرايا الصافية لا تكون على الجدران، بل في السكون... في دمعة صادقة، أو ضحكة نقيّة... أو لحظة تقف فيها أمام نفسك، بلا خوف، بلا تمثيل... فتقول: هكذا أنا... وهذا يكفيني. بالمختصر... كلّ مرآةٍ مرآتان: واحدةٌ تراها أنت، وأخرى... تراك هي. فاحذر أن تُكثر النظر في المرآة، فتقع، كـ نرسيسوس، في عشق الظلّ، وتنسى أن الأصل... ليس في الصورة، بل في القلب.
دمتم بود