بوصلة اقتصادية
تعتمد السفن في البحار والمحيطات على بوصلة تقليدية تعمل بأربعة اتجاهات نحو الشمال والجنوب والشرق والغرب، ومن 0 إلى 360 درجة بناءً على إحداثيات محدَّدة، وعلى علامات ملاحية وضعتها المنظمة البحرية الدولية (IMO)، وتتكامل مع أجهزة الملاحة البحرية: كجهاز تحديد المواقع، وجهاز الرادار، وجهاز كاشف الأعماق، وجهاز اللاسلكي، وجهاز التعرُّف الآلي، وأجهزة قياس حالات الطقس والتيارات المائية، بجانب الباورة (المرساة)، وسترات النجاة، وغيرها من مُعدات السلامة البحرية، لضمان الوصول إلى الوجهة البحرية المطلوبة.
فالسفن والزوارق لا تستغني عن الأجهزة الملاحية البحرية، وكذلك الدول، لا يمكنها الاستغناء عن أجهزة ملاحية تقود اقتصادها باتجاه ذروة الازدهار، وتُبعدها عن الركود والكساد.
فإذا تخيلنا أن هناك بوصلة تفاعلية يتحرَّك مؤشرها (السهم الممغنط) بين أربعة اتجاهات اقتصادية، الازدهار (شمالاً)، والكساد (جنوباً)، والذروة (شرقاً)، والركود (غرباً)، تساعد على توجيه الدول في محيط الاقتصاد العالمي المتلاطم بالتعرفات الجمركية، وأسعار العملات المتذبذبة، والموارد الطبيعية المتناقصة، وسلاسل التوريد المعطلة، والنزاعات الدولية المستعرة، ومعدَّلات التضخم والبطالة، ومخاطر الركود والكساد، وغيرها من التحديات التي تُنذر بأمواج عاتية أمام أي محاولة لإنعاش الاقتصاد العالمي... إذاً نحن بحاجة إلى لوحة تحكم (Dash Board) لتنذرنا مبكراً بما هو قادم، حتى نتفادى مخاطر فقدان الوجهة المطلوبة، بعد الانحراف عن مسار الذي حدَّدته لنا البوصلة. وهذا ما نقوم به يومياً عند إطلاعنا على مؤشر الأحمال الكهربائية، والذي عادةً ما يُنذرنا في حال الوصول للمنطقة الحمراء، والتي تبدأ عندها الانقطاعات، وتتخذ معها إجراءات لتخفيف وترشيد الاستهلاك حتى نعود للمنطقة الخضراء، وهو ما نتطلع إليه أيضاً في لوحة التحكم الاقتصادية (Economic Dash Board)، والتي تغذي البوصلة الاقتصادية (Compus Economic) بالبيانات والمؤشرات التي تنبه المسؤولين ليقوموا بتدوير العجلة، وتوجيه الاقتصاد الوطني باتجاه ذروة الازدهار الأخضر، بدلاً من اللون الأحمر المتجه نحو الركود والكساد.
فالبوصلة الاقتصادية تمثل رؤية شاملة لتوجيه سياسات واستراتيجيات الدول نحو تنويع الاقتصاد، ورفع كفاءة الإنفاق العام، وتحفيز الابتكار وريادة الأعمال، وتطوير التعليم لتلبية متطلبات سوق العمل، وتحديد الأسواق المستهدفة للصادرات، وتحسين سلاسل التوريد، وتحقيق أمن غذائي وتنمية مستدامة، ومعالجة الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد، من خلال مساهمة فعَّالة من القطاعات الإنتاجية في الناتج المحلي الإجمالي، وفي توفير فرص عمل تغطي نِسب البطالة الحالية والمتوقعة على المديين المتوسط والبعيد، مع ربطها بمؤشرات أداء ذكية ومتقدمة.
من المهم أن تعتمد الدول بوصلة اقتصادية قابلة للتكامل الخليجي والعربي والدولي، ومدعومة بالاتفاقيات الثنائية والإقليمية والعالمية، ومستندة إلى الكفاءة اللوجستية والخدمات التمويلية، والإدارة المالية المرنة، وخريطة استثمارية جاذبة، وأسواق مالية نشطة، ومصادر طاقة متنوعة، وبيئة أعمال محفزة، وبنية تحتية رقمية، وتشريعات مرنة ومتطورة، وكفاءات وطنية ممكنة، وأصحاب مبادرات مبتكرة، ومشاريع صغيرة منتجة، تتناغم فيما بينها وتلبي الطلب على المنتجات المحلية الغذائية منها والخدمية.
فالبوصلة الاقتصادية ليست مجرَّد توجه نظري، بل رؤية تنفيذية تُبنى على نموذج اقتصادي ممنهج لإرشاد الدول نحو اتخاذ أفضل القرارات الاقتصادية، وترتيب الأولويات التنموية، واستغلال الموارد بكفاءة، واستشراف المستقبل الاقتصادي بدقة، لضمان تحقيق تنمية شاملة مستدامة. فإذا أرادت أي دولة أن تستخدم أداة استراتيجية ومنهجية لإدارة دفة الاقتصاد بفاعلية للوصول إلى مسار الإزدهار، فعليها الاعتماد على بوصلة اقتصادية.