مَنْ قال إن الكلمات لا تقتل؟!

نشر في 01-08-2025
آخر تحديث 31-07-2025 | 20:25
 بدور المطيري

في صباح 25 يوليو 1990، دخلت السفيرة الأميركية أبريل غلاسبي مكتب صدام حسين في لقاء كان من المفترض أن يكون قصيراً، لكنه تحوَّل إلى واحدة من أكثر اللحظات إثارة للجدل في تاريخ الدبلوماسية.

قالت غلاسبي في ذلك اللقاء: «لا نتخذ موقفاً من النزاعات العربية– العربية، مثل نزاعكم مع الكويت». سبع كلمات فقط، لكن كان من شأنها أن تغيِّر تاريخ المنطقة العربية والخليجية بشكلٍ خاص فيما سيلي من عقود وحتى اليوم. بالنسبة لواشنطن كان ذلك تأكيداً على الحياد الأميركي، أما صدام - وفق فهمه - فاعتبرها ضوءاً أخضر للتحرُّك عسكرياً، أو حياداً أميركياً، وبعد أسبوع قامت القوات العراقية باجتياح الكويت.

ثمة سؤال يعصف بالذهن: هل كانت غلاسبي تعني حقاً ما فهمه صدام؟ وماذا لو طلب صدام إيضاحاً أكثر منها؟ الدرس واضح: في التفاوض، قيمة الكلمة تكمن في معناها لدى الطرف الآخر، لا في نبرة قائلها.

هذا الحدث أصبح يُدرَّس في معظم مناهج التفاوض والدبلوماسية في العالم حول أهمية الوضوح في الحوار، وتجنُّب الغموض، الذي سيؤدي إلى كوارث. هل يمكن أن تشعل الكلمة حرباً أو تبني سلاماً؟ هل التفاوض يعني أن تربح أنت وأخسر أنا؟

هذه الأسئلة أعادت لي دروساً في برنامج «فن المفاوضات والقيادة» بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة، حيث اكتشفت أن التفاوض عملية ثلاثية الأبعاد تبدأ عبر الإعداد الاستراتيجي لتحديد الأطراف والقضايا، ثم تصميم الصفقة لخلق مكاسب مشتركة، وتنتهي عبر التكتيكات داخل الغرفة لضمان وضوح النوايا.

في هارفارد، طلبت منا الأستاذة في تمرين عملي جماعي امتد لأكثر من ثلاث ساعات أن نواجه

مفاوضات بين أطراف ذات مصالح متناقضة. في البداية، دافع كل طرف عن مواقفه بعناد، لكن بمجرَّد فهم دوافع الآخرين والإنصات لاحتياجاتهم، تحوَّلت المواجهة إلى تعاون، وخرجنا بحلول مبتكرة لم نتوقعها.

أعترف أنه منذ تلك التجربة الثرية التي منحتها لي مؤسسة الكويت للتقدُّم العلمي، أصبح التفاوض شغفاً حقيقياً بالنسبة لي، فقد أخذت دورات إضافية، وقرأت كُتباً متخصصة لأتعلَّم هذه المهارة، حيث كانت نصيحة أحد الأساتذة في هارفارد، أن «التفاوض مهارة، فهو مثل العضلات كلما مرَّنتها أصبحت متمكناً فيها». لقد أدركت أن الحياة كلها تفاوض، وأن مَنْ لا يتقن هذا الفن قد يضيع عليه الكثير، فنحن لا نُولد مفاوضين، لكننا نستطيع أن نتعلَّم، وأن نُصغي، وأن نُعيد التفكير. هنا تكمن القيمة الحقيقية لما تعلمناه.

اليوم، كلما تأملت النزاعات المعاصرة، أزداد قناعة بأن التفاوض فلسفة حياتية، وهو فن لإيجاد المساحات المشتركة، وأن الكلمة الواضحة قد تحمي من أزمات كبرى.

التفاوض فن ليس عن السيطرة أو الإقناع فقط، بل عن بناء الجسور، وصناعة المساحات المشتركة، وهو في نظري أحد أكثر المهارات الإنسانية عُمقاً وصدقاً. ومن أعماق هذه التجربة، أقول بثقة إن كل إنسان يستحق أن يتعلَّم كيف يفاوض ويطوِّر رصيد كلماته، لأن الكلمات سلاح يشعل أو يطفئ النيران. فلنتعلَّم مما نراه من حولنا من أزمات، بأن الكلمات لها قوة هائلة، والوضوح في التواصل ضرورة حتمية لبناء عالم أكثر سلاماً واستقراراً.

back to top