خديجة بن عادل: قصيدة النثر فضاء رحب للتجديد

شاعرة جزائرية تعيش في فرنسا وتُعيد تشكيل وطنها عبر اللغة

نشر في 30-07-2025
آخر تحديث 30-07-2025 | 18:57
غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
صوت شعري يحمل في طياته همس الذاكرة وصدى الأماكن البعيدة، تكتب بلغةٍ تختزل الحنين والاغتراب، وتتأرجح في إبداعها ببراعة بين العربية والفرنسية، فتصنع عوالم تلامس الوجدان من دون أن تفقد حدَّتها الفكرية. في دواوينها، مثل: «غياهب الدجى»، و«ويسألونك عني»، و«هكذا نعبر إلينا»، تقدِّم الشاعرة الجزائرية المقيمة في فرنسا، خديجة بن عادل، رؤيةً خاصة للوجود بين ضفتَي المنفى والانتماء، كما ترى أن قصيدة النثر مسار مستمر من الاكتشاف والابتكار، تتعامل معها كفضاء رحب للتجديد... وفيما يلي نص الحوار:

• في ديوانكِ «ويسألونك عني»، تكرِّسين ثنائية الغربة والانتماء بلغة تكاد تكون دموعاً معلَّبة بين السطور... كيف استطعتِ تحويل الألم الجغرافي إلى إبداعٍ يخاطب كل مغترب؟

- في هذا الديوان لم أكتب عن الغربة باعتبارها مكاناً بعيداً، بل كتبتها كما يحسها القلب: غربة في اللغة، في الهوية، في الملامح التي لا تجد مرآتها. كُنت أبحث في القصائد، لا عن وطنٍ جغرافي، بل عن وطنٍ يمكن حمله في القصيدة، لا يُفتَّش في المطارات، ولا يُسقط بالجنسية.

تحويل الألم إلى إبداع ليس قراراً، بل انفجار داخليّ ناعم. كُنت أكتب لأبقى حيَّة، وأضمِّد المنفى بالحبر، وأمنح كل مغتربٍ - ولو من دون أن يعرفني - بيتاً صغيراً بين أبياتي. ربما لهذا تشعر أن اللغة في الديوان تشبه الدموع المُعلَّبة، ليست ظاهرة، لكنها قابلة للانفجار عند أول ارتجاج شعور.

أردت أن تكون الغربة صوتاً لا جرحاً، وأن يكون الانتماء فعل كتابة، لا بطاقة تعريف. لذا أظن أن كل مَنْ مرَّ بتجربة اقتلاع أو اغتراب يجد شيئاً من ذاته في هذا الديوان.

أكتب لأبقى حيَّة وأضمِّد المنفى بالحبر

جرح نازف

• تقولين في إحدى قصائدك: «أُمِّي الكَفُّ الخَضِيبُ/ أُمِّي حقل خصيب»... ألا يزال الحنين للجزائر يُشكِّل الجرح النازف في كتاباتكِ، أم أن السنوات قدَّمت حلولاً جديدة لمعادلة الهوية؟

- هذا السؤال يُلامس وتراً حساساً في تجربتي، لا فقط كشاعرة، بل كإنسانة تحمل وطنها في اللغة وفي الذاكرة. حين أقول: «أمي الكف الخضيب/ أمي حقل خصيب»، فإنني لا أُشير فقط إلى الأم البيولوجية، بل أفتح المعنى على الجزائر نفسها... على تلك الأرض التي لاتزال تسكنني، رغم البُعد، والمنفى، ورغم الصمت الطويل الذي يخلِّفه الرحيل.

الحنين في قصائدي ليس حالة عابرة، بل هو جغرافيا داخلية، هو طريقة رؤيتي للعالم. في بدايات الغربة، كان الحنين يشبه الجرح المفتوح: صاخباً، نازفاً، لا يحتمل التأجيل. كُنت أكتب من داخله، لا من حوله. أما اليوم، فقد تعلَّم هذا الحنين أن يهدأ، أن يتحوَّل إلى طبقة رقيقة من الحزن النبيل، الذي لا يعوق الكتابة، بل يحرِّضها.

السنوات لم تُقدِّم لي حلاً نهائياً لمعادلة الهوية، بل فتحت لي باباً لأُصغي إلى هويتي المتحوِّلة. لم أعد أرى الانتماء كخندق أو موقع ثابت، بل كمسار مستمر من السؤال، من التفاوض بين المكان واللغة، بين الجسد والذاكرة. الجزائر لاتزال حاضرة في كل حرف، لا كمكان مادي فحسب، بل كرمز للانتماء الأول، للجذر الذي لا يُنتزع.

أنا اليوم أكتب من منفى لا أنكره، لكنه ليس نفياً كاملاً. إنه ذلك الحيِّز الرمادي الذي تعلَّمت فيه أن أكون جزائرية في الغياب، وأن أُعيد تشكيل وطني عبر اللغة.



• الناقد جوتيار تمر وصف نصوصكِ بأنها تعيش «حالة استلابٍ نادرة العمق»... كيف تتفاعلين مع القراءات النقدية لِما تكتبين؟ وهل تُعيد هذه القراءات صياغة وعيكِ الإبداعي؟

- حين يلتقط ناقدٌ مثل جوتيار تمر فكرة «الاستلاب» في قصائدي، ويصفه بأنه «نادر العُمق»، أشعر بأن النص قد وصل إلى قارئه الحقيقي، لأن الاستلاب الذي يسري في كتابتي ليس مجرَّد ثيمة، بل حالة وجودية عشتها وأكتب من داخلها: الاستلاب من الجغرافيا، من اللغة الأولى، من الأمكنة التي لم تعُد كما كانت.

أنا لا أكتب من «مركز» مستقر، بل من هامش مُضطرب، لذا فإن القراءة النقدية الصادقة تُنير لي جوانب لم أكن واعية بها أثناء الكتابة. أحياناً أُفاجأ بأن القصيدة كانت تُفكر من تلقاء ذاتها، وكانت تتسلل إلى طبقاتٍ في داخلي لم أصل إليها بعد.

أنا لا أكتب بقصدية نقدية، لكنني أؤمن بأن القراءة الذكية تُنضج النص، لا تُفسِّره فقط. كل قراءة حقيقية تمنحني عيناً جديدة، تُعيد ترتيب داخلي، أو تُريني الظلال التي لم أنتبه لوجودها وأنا أكتب. لذا، لا أتعامل مع الناقد كسُلطة، بل كصوتٍ داخل النص، يُحاوره، يُجادله، وأحياناً يكشفه لي من جديد.

الوعي الإبداعي، في حالتي، لا يتوقَّف عن التحوُّل. وربما هذا ما يجعلني أرحِّب بالقراءات التي تُحرِّضني على إعادة التفكير، لا في النص وحده، بل في نفسي أيضاً كذات كاتبة.

الاستلاب الذي يسري في كتابتي حالة وجودية

مسار مستمر

• من «غياهب الدجى» إلى «ويسألونك عني»، كيف تطورتْ علاقتُكِ مع قصيدة النثر؟ وهل مازلتِ ترينها - كما وصفْتِها سابقاً بأنها «جواز سفرٍ إلى قلوب القراء»؟

- علاقتي مع قصيدة النثر هي مسار مستمر من الاكتشاف والتجديد. منذ ديواني الأول (غياهب الدجى) وأنا أتعامل مع قصيدة النثر ليس فقط كنوعٍ شعري، بل كفضاء رحب أُعبِّر فيه عن تجاربي بمرونة لا تسمح بها القوالب التقليدية.

في البداية، كانت قصيدة النثر بالنسبة لي حقاً جواز سفر إلى قلوب القراء، لأنها تسمح بالاندماج العاطفي المباشر، وبعبور الحدود بين الشاعرة والقارئ بسهولة أكثر من الشعر المقفى. هذا الأسلوب كان السبيل لأُفضي بالحنين، بالاستلاب، بالألم، وبكُل طبقات الذاكرة التي لا تحتمل اختزالها.

ومع تطوُّر تجربتي واحتكاكي بتجارب شعرية مختلفة، لم تعد قصيدة النثر عندي مجرَّد «جواز سفر»، بل أصبحت أرضاً للتجريب، وللحوار الداخلي والخارجي، فضاء تتلاقى فيه الذات مع العالم بكثافة وشغف.

وفي «ويسألونك عني»، تعمَّقتُ في استعمال قصيدة النثر بشكلٍ أكثر اتساعاً، إذ أدمجت بين الصور والنبضات اللحظية، وفيها أيضاً وجدت أن النص يتجاوز «جواز السفر»، ليكون مقاماً مستقراً للحكي الشعري، وللبحث عن الذات.

لذا نعم، أؤمن بأن قصيدة النثر لاتزال الأكثر قدرةً على احتضان تجربة الغربة والحنين والهوية المعقدة، لكنها بالنسبة لي الآن أيضاً فضاء للعب والتجديد، لا مكاناً للجوء فقط.

• الكتابة بين اللغتين العربية والفرنسية... هل تُحدثُ هذه الازدواجية انقساماً في هويتكِ الإبداعية، أم أنها تمنحُكِ ثراءً غيرَ مسبوق؟

- الكتابة بين العربية والفرنسية تجربة مركَّبة وحساسة، تحمل في طياتها تحديات وفرصاً في آنٍ واحد. في البداية، قد يشعر الكاتب بثقل الانقسام، كأن هويته الإبداعية مُمزَّقة بين عالمين لغويين، وكل لغة يحيط بها تاريخها الثقافي، وذاكرتها، ورموزها.

لكن مع الوقت، تعلَّمت أن أنظر إلى هذا التعدد اللغوي كمخزون غني للكتابة، وليس كمصدر انقسام. اللغتان تتكاملان في نصي، كل واحدة تحمل نغمتها الخاصة، إيقاعها، وثراء مفرداتها، وهو ما يسمح لي بتوسيع فضاء التعبير والتجريب.

• أخيراً... ما العمل الإبداعي الجديد الذي تعكفين على كتابته الآن وقد يرى النور قريباً؟

- حالياً، أضع اللمسات الأخيرة على ديوان نثري جديد، فيه أواصل استكشاف علاقتي بالمنفى واللغة والذاكرة، لكن بنبرة أكثر تأملاً وهدوءاً من أعمالي السابقة.

في الوقت نفسه، أشتغل على كتاب في القصة القصيرة جداً، لأن هذا الشكل السردي المكثف يُغريني بلغته الخاطفة وحدّته. هو أشبه برمشة وجع، أو ومضة حلم، ويمكنه أن يحمل عوالم كاملة في مساحة صغيرة.

وهناك أيضاً كتاب في الشعر الغنائي في مدح النبي محمد (ص)، وفيه أحاول أن أُزاوج بين الجمالية الشعرية وروح الذكر، أن أُعيد للنشيد الديني روحه الشعرية النقية، من دون مبالغة أو تصنُّع.

back to top