القضاء الفرنسي وإشكالية منح الأسد الحصانة الدبلوماسية

نشر في 30-07-2025
آخر تحديث 29-07-2025 | 20:23
 د. مخلص المبارك

تمثّل الحصانة نظاماً دولياً تقليدياً اكتسب أهميته في القانون الدولي والعلاقات الدولية، بهدف منح أشخاص محددين (رؤساء الدول ورؤساء الحكومات والوزراء والدبلوماسيين) الحصانة من المقاضاة أمام المحاكم الأجنبية، وجرى العرف الدولي على تضمين مبدأ الحصانة في التشريعات الوطنية كاستثناء من القواعد الجزائية الوطنية والدولية، رغم توافر الصفة الجزائية لأفعالهم.

وقد استقر العُرف الدولي خلال مئات السنين على إعفاء رؤساء الدول بمسمياتهم المختلفة من الخضوع إلى سلطان القوانين الجنائية الوطنية، نظراً للمكانة السامية التي يتمتعون بها، وأي مساس بتلك المكانة يمثّل مساساً بسيادة دولهم.

وعلى الرغم من عدم وجود أي اتفاقية دولية محددة في هذا الشأن حتى الآن، فإن التطبيق الدولي استند في ذلك إلى مبادئ الأعراف الدبلوماسية الدولية واتفاقية فيينا للحصانات الدبلوماسية لعام 1961 وفيما بعد إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي كرّس مبدأ جديداً في القانون الدولي الإنساني، من خلال تأكيد عدم جواز الاعتداد بالحصانة الدبلوماسية المطلقة كسبب للإفلات من العقاب عند ارتكاب الجرائم الدولية التي حددتها الفقرة الأولى من المادة 5 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الجرائم التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وهي 1- جريمة الإبادة الجماعية 2- الجرائم ضد الإنسانية 3- جرائم الحرب 4- جريمة العدوان.

وجاءت محاكمات نورمبرغ عام 1945 ليؤكد القضاء الدولي مسؤولية الرؤساء والقادة عن الأفعال المرتكبة والتي تشكل تهديداً للمجتمع الدولي وتعرّضه للخطر، والتي تكرس المسؤولية الجنائية للأشخاص عن الجرائم الدولية، بغضّ النظر عن صفاتهم الشخصية أو الوظيفية.

ومع قيام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة بتاريخ 17/ 7/ 1998م وتبنّي نظامها الأساسي ترسخ في القانون الدولي مبدأ عدم جواز الاعتداد بالحصانة المطلقة في الجرائم الدولية، ووضع حد لظاهرة الإفلات من العقاب، وتم تأكيد مسؤولية الأفراد عن ارتكاب الجرائم الدولية في نص المادة 25، وكذلك نصت المادة 27 من النظام الأساسي للمحكمة على أنه «1- يطبّق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون تمييز بسبب الصفة الرسمية، وبوجه خاص، فإن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيساً لدولة أو حكومة أو عضواً في حكومة أو برلمان، أو ممثلاً منتخباً أو موظفاً حكومياً لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسؤولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي، كما أنها لا تشكّل في حد ذاتها سبباً لتخفيف العقوبة. 2- لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص، سواء كانت في إطار القوانين الوطنية أو الدولية دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص».

ويؤكد هذا النص عدم جواز الاعتداد بالحصانات أو القواعد الإجرائية، سواء تم النص عليها في القانون الدولي أو في القوانين الجنائية الوطنية، انطلاقاً من مبدأ المساواة بين جميع الأشخاص أمام المحكمة، وبغضّ النظر عن الصفة الرسمية التي قد يتمتعون بها، مما يجعل الحصانة القضائية للدبلوماسيين ومنهم الرؤساء، والمقررة بموجب اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961م غير معتدّ بها أثناء مساءلة الأشخاص المتهمين بارتكاب الجرائم الدولية أمام المحكمة الجنائية الدولية.

وفي موضوع القضية التي كانت منظورة أمام القضاء الفرنسي، المتهم فيها الرئيس السوري الهارب بشار الأسد بالتواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، فقد جاء في نطاق ما يسمّى الاختصاص العالمي للقضاء الوطني كأحد أركان الردع الدولي للجرائم الدولية الخطيرة، وذلك استثناءً من قاعدتَي الإقليمية والشخصية لقانون العقوبات الفرنسي، الذي تم تعديله عام 2010 من خلال دمج نظام روما الأساسي في القوانين الفرنسية، وتوسيع نطاق اختصاص المحاكم الفرنسية لتشمل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ترتكب بعد ذلك التاريخ، مع وجود بعض التعديلات اللاحقة لتقييد الاختصاص العالمي.

ومن خلال السياق الذي اتخذته القضية، نلاحظ أن المشرّع الفرنسي قيّد نفسه لجهة التفريق بين نوعين من الحصانة، هما الحصانة الشخصية والحصانة الوظيفية، حيث اعتبر أن توصيف الجريمة موضوع الدعوى يدخل في إطار الحصانة الشخصية التي تمنح للرؤساء أثناء توليهم مناصبهم، وهو مبدأ عفا عليه الزمن.

لكنه أبقى الباب مفتوحاً لتحريك الدعاوى مستقبلاً اعتماداً على مبدأ الحصانة الوظيفية التي تُسقط الحصانة عن الأسد بعد انتهاء تولّي منصبه كسبيل لعدم الإفلات من العقاب، في ظل عجز المحكمة الجنائية الدولية عن متابعة الانتهاكات والجرائم الدولية التي تم ارتكبت في سورية، نظراً لعدم انضمام سورية للمحكمة الجنائية الدولية وصعوبة إحالة ملفها من قبل مجلس الأمن الدولي للمحكمة تبقى العدالة في سورية منقوصة بانتظار إقرار مبادئ للمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب وصدور قانون للعدالة الانتقالية يسمح بمتابعة الانتهاكات الجسيمة التي عاناها الشعب السوري طوال عشرات السنين.

* مستشار قانوني وأستاذ جامعي - لندن

back to top