عن الأمل في زمن الحصار والجوع *
ابحث، بل احفر بكل ما أوتيت من قوة، وابحث عن نقطة ضوء أو أمل لترسلها عبر رسالة لكثر هم من يقفون منكسرين ربما أمام أكبر تحدٍّ للإنسانية والبشرية في هذا الزمن. ابحث أكثر، بل انبش بين كل أجزاء الأجساد والأصوات القادمة، وسط كل هذا الضجيج الصامت أم هو صمت الضجيج؟ حاول أن تجد بصيصاً ولو بسيطاً من ضوء يبدو خافتاً جداً، رغم أنك تعرف أن كل هذا الموت لا بُد أن تأتي بعده ولادة جديدة، وكل هذا الدمار يعني بداية النهاية لذلك الكيان الذي يعرف كثيرون من أبنائه أنهم مع الوقت واستمرار حرب الإبادة، يتحولون إلى أكثر المخلوقات كراهية لدى شعوب الأرض، حتى ولو وقفت معهم حكومات تسمي نفسها ديموقراطية أو شركات عابرة للحدود والمحيطات والفضاء كله.
ألم يقل لك صديقك الجزائري ويكررها مراراً عندما يغيب كثيراً ثم يعود ليذكّرك بكيف انتصروا هم وكيف قدموا الملايين من الشهيدات والشهداء، ويكررها كانت نساؤنا، هو مثلي لا يحب كلمة حرائر، كانت نساء الجزائر تقاومن واقفات كنخيل بلادهن. ثم ينهي المكالمة وبلطف شديد يشكرني، فلا أفهم لماذا الشكر، فيرد لأنه كلما تحدثنا أجد بين تفاصيل حديثنا بعض الأمل، ويتمتم وكأنه يحدث نفسه «أمر لا أجده بين كثير من الدبلوماسيين العرب حولي وهم كثر». تنتابك حالة من الاشمئزاز وأنت جالس في تلك الزاوية تنتظر أن تنهي قهوتك أو اللقاء، وفيما ينشغل الجميع حول المائدة بهواتفهم تتجول بنظرك حول الموائد المرصوصة وكلها مكتظة بنساء ورجال وأحياناً أطفال كلهم مشغولون بتصوير انبهارهم بالمكان أو الأكلة اللذيذة ونشرها على وسائل التواصل.
لا تعرف لماذا يضيق نفسك وتنتابك حالة من الرغبة في سكب القهوة على رؤوس كل المتربعين على عروش الموائد وترحل من كل هذه الأمكنة... لا تعرف، بل ربما تحاول ألا تنثر أحكامك على مجموعات واسعة تحولت إلى مجرد مخلوقات تعيش على الاستهلاك والجري للفوز بـ «ترند» عبر تصوير طبق، أو أكلة، أو مطعم، أو مقهى جديد أو حتى وجهة لإجازة صيفية منعشة... هل استمتعتم بمصيفكم وتسوقتم في إجازتكم واستلقيتم على شواطئ البحر الأزرق فيما هم يغرقون في دمائهم وعتمة هذا الزمن؟؟؟ إنه زمن آخر لا يشبه ما تعلمته في مدارسك ولا ما حاول أهلك غرسه في باطن عقلك وقلبك ولا ما لقنك الزمن من دروس كثير منها لم يكن سهلاً أبداً، بل أكثر صعوبة من المشي فوق الماء. إنه زمن يخجل فيه معلم القانون الدولي من طلابه ويقف الباحث حائراً هل يكمل أطروحته بالاستشهاد بالمراجع والمعايير العالمية في العدالة وحقوق الإنسان؟؟ ويراقب الصحفي والإعلامي المشهد الذي يقدمه رجال ونساء أعلامنا الشهيرات والشهيرين أمام ما درسوه في كتبهم وكلياتهم، وتعلموه على أيدي أولئك الذين رحلوا حاملين أقلامهم كرايات للبحث خلف الخبر والحقيقة التي ليست بوجه واحد، كما يعرضه المتحكم والمسيطر وصاحب المال والسيطرة، وهم في مجملهم ليسوا بعيدين، فقد تزوج الحكم من رأس المال وأصبحت السلطة السياسية الاقتصادية والثقافية المعرفية كلها يد بيد حفنة من رجال ونساء لا يتوارون عن إبراز ثرواتهم وبذخهم في زمن شحّت فيه كسرة الخبز أو منعت!
تستفيق من يقظة البحث إلى واقع الطرق على الأواني. تلك الحالة التي وصل صداها من غزة حتى نيوزيلندا وأستراليا كشكل من الاحتجاج على حصار وتجويع وإبادة أهل غزة... ترتفع الأصوات بكل اللغات «انهوا حصار غزة» افتحوا المعابر لتمر المساعدات الإنسانية وأوقفوا الإبادة... غزة تلك التي وحدتهم جميعاً أمام جوعها وعطشها وموتها وقتل أبنائها هي الوحيدة التي تقاوم الآن بتوحيد الكون ليقف أمام هذا الحصار، حيث الجوع سلاح إبادة، والعطش أكثر فتكاً من صواريخ «حوليت» و«يتيد» أو المدرعة «إيتان». حصار أنهى ما تبقى من رمق لدى الهيئات الإنسانية الدولية، وحولها هي الأخرى إلى مجرد شكل من أشكال العبث بغرف وقاعات يكثر فيها الصراخ والمطالب والخطابات الممجوجة، فكيف تستغيث الهيئات الإنسانية عند مجرم الحرب، بل تجري وترسل الصرخات نفسها ربما ببعض تغيير لعبارة هنا أو هناك، وهي نفسها مسؤولة ربما بشكل أو بآخر عن تلك الحرب، ألم توجه لها أصابع الاتهام من قبل كثير من الباحثين والمطلعين، لأنها ترفض حتى الآن أن تعلن أن غزة منطقة منكوبة بالمجاعة، وتكتفي باللعب والالتواء خلف الكلمات والتخفي خلف الأحرف... لا ـحد سيكون فوق الحساب بعد غزة فكلهم، بل كلنا سنقف هناك يوماً محاولين أن نفسر كيف وقفنا صامتين والإبادة تصرخ في وجوهنا واضحة كالشمس... كيف؟!
* يُنَشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية