«تشخيصات نفسية عبر آلة الزمن»... كتاب يعرّي مفكري الماضي ومؤثري اليوم
في لحظةٍ فارقة من الوعي، نكتشف أننا لا نحاكم الأفكار وحدها، بل نحاكم مَنْ أطلقها.
هل نبالغ حين نتساءل: هل كان الحلاج مريضاً نفسياً؟ وهل عاش ابن عربي لحظات من الذهان الروحي؟ وهل يمكن لبعض عباقرة الفكر أن يكونوا، في حقيقة الأمر، ضحايا لاضطرابات نفسية غير مُشخصة؟
هذا ما يطرحه د. عادل الزايد، استشاري الطب النفسي، في كتابه الجريء والمثير للجدل «تشخيصات نفسية عبر آلة الزمن».
في هذا العمل الفريد، يقدِّم الزايد رؤية جديدة لفهم التاريخ من منظور نفسي، حيث يقترب من شخصيات أثارت جدلاً فكرياً ودينياً عبر العصور، ليقول بكل وضوح: ثمة اضطرابات نفسية مستترة ربما لعبت دوراً في تشكيل فكر هؤلاء، من دون أن تنفي بالضرورة عبقريتهم أو إنسانيتهم.
المنطقة الرمادية بين الصحة النفسية والمرض
الدكتور الزايد يقترح نموذجاً تفسيرياً لا يقتصر على الأبيض والأسود، بل يسلِّط الضوء على «المنطقة الرمادية» بين الصحة النفسية الكاملة والمرض النفسي الظاهر.
في هذه المنطقة، يعيش أشخاص باضطرابات خفية لا تفقدهم توازنهم أو وعيهم الظاهري، لكنها تغيِّر زاوية نظرهم للكون، وتؤثر على سلوكهم وعلاقاتهم ومواقفهم.
من هذه الاضطرابات: الشخصية الحدّية، والنرجسية، والهوس الخفيف ضمن اضطراب ثنائي القطب.
هؤلاء قد يبدون مبدعين أو ملهمين، أو حتى أولياء، لكنهم يحملون في أعماقهم اضطرابات تلبس ثوب الفلسفة أو الإلهام أو حتى الحداثة.
الحلاج وابن عربي بلغة اليوم
ما فعله الحلاج حين صاح «أنا الحق»، وما قاله ابن عربي عن «وحدة الوجود»، لا يختلف كثيراً – في جوهره النفسي – عمَّا نسمعه اليوم من بعض المؤثرين الذين يتحدثون عن الشفاء بالطاقة، والتحليق بالروح، والتخاطر الكوني، وجذب المال بقوة الذبذبات، والحضور الذهني.
قد تتغيَّر اللغة والثياب، لكن النمط النفسي يظل كما هو: تضخم الذات، واختلاط الحدوس بالهلاوس، والشعور برسالة كونية تضع صاحبها في مقام أعلى من سائر الناس. وهو ما يسميه الأطباء «الجنون الصغير» أو «الهوس الخفيف».
وهناك بُعد جديد، وهو السياق النفسي والاجتماعي، فالحلاج عاش في زمن كانت الصوفية تتحدَّى الأطر التقليدية، مما عزَّز من حدة خطابه.
وفي عصرنا، توفر بعض منصات التواصل الاجتماعي مساحة خصبة لظهور مؤثرين
يروِّجون لأفكار غير تقليدية، مدفوعين بضغوط السوق الرقمي أو البحث عن الترند.
العبقرية والاضطراب... علاقة أزلية
التحليل النفسي لا يدين بل يفسر، لا يسلب الشخص حُريته، ولا يهين إنسانيته، بل يحاول أن يفهمه بشكلٍ أعمق.
من هنا تأتي أهمية هذا النوع من الطرح لفهم الشخصية التاريخية أو المعاصرة، ليس فقط من زاوية فكرها، بل من زاوية بنيتها النفسية وتجربتها الحياتية وصدماتها الطفولية.
أمثلة حديثة
فرويد، الذي قلب فهم النفس البشرية، انتهى بالإلحاد وبناء نظرية على إسقاطاته الذاتية.
نيتشه، أعلن موت الإله، لكنه انتهى معتلاً في مصحة عقلية.
أما جبران خليل جبران، فكتب بلغة أشبه بالوحي، فيما هاجمه رجال الدِّين بوصفه مهرطقاً.
هل نعيش اضطرابات بلا وعي؟
وهنا لا نتحدَّث عن الماضي فقط، بل نُعيد توجيه البوصلة إلى الحاضر: كم من قادة الفكر والدِّين والإعلام يعيشون في سلام ظاهري، فيما يحملون بدواخلهم اضطرابات لم تُشخص؟
كم من شخصية تبدو واثقة ومؤثرة، لكنها ترى العالم بعدسات مشوهة، فيُسهم خطابها في زرع التشويش والتعصب والغلو في مجتمعاتهم؟
في كل بيئة عمل، قد نجد مَنْ يتخذ قرارات انفعالية أو يفسر الأحداث بعقلية المؤامرة أو يطالب بالولاء الكامل من دون نقاش.
هؤلاء – وإن بدوا ناجحين – قد يكونون ضحايا لاضطرابات نرجسية، أو قلق مرضي، أو حتى تاريخ طفولة غير معالج.
مسؤولية المربي والزعيم
من أخطر ما يكشفه هذا الطرح أن القائد، أو المعلم، أو المصلح، إن كان مصاباً باضطراب نفسي غير ظاهر، فقد ينقل أزماته إلى أتباعه دون وعي.
قد يغلف الانغلاق بالغيرة الدينية، أو يضفي على انفعالاته هالة من الإصلاح، وهو في الحقيقة لا يربي إلا التطرُّف أو الغلو أو الانكسار الداخلي.
ولهذا، فإن الإصلاح الديني أو الاجتماعي لا يكفي أن يُبنى على الشرع أو القانون فقط، بل لابد أن يستند إلى علم النفس.
كثير من انحرافات التاريخ لم تكن بسبب نقص المعرفة، بل لأن نفوساً مريضة لبست عباءة العلم والفكر والفلسفة لتبرر بها جراحها وأوهامها.
دعوة إلى التواضع والمراجعة
حين ندمج علم النفس بالتاريخ، نكفّ عن تقديس كل ما كُتب، أو لعن كل مَنْ شطح.
نراجع أنفسنا قبل غيرنا، ونسأل: ما الذي يجعلنا ننظر للناس والكون بهذه الطريقة؟ ما الذي في داخلنا من أمراض لم نرها بعد؟ وهل نحن أسرى تصورات مشوشة اكتسبناها من رموز لم نُحسن التمييز في حقيقتهم؟
إن التربية الواعية تبدأ من الداخل، من ترسيخ العقيدة الصحيحة، ثم من إدراك المربي لذاته، ومن تحرره من أوهام الكمال.
كما أن الرحمة بالناس تبدأ من الفهم، لا من الحكم، ومن الوعي بأن النفس الإنسانية أعمق وأعقد مما نتصوَّر.
في الختام: درس من آلة الزمن
يعلمنا كتاب «تشخيصات نفسية عبر آلة الزمن» أن عبقرية الإنسان لا تلغي احتمالية مرضه، وأن الشطحات الفكرية قد تكون صوتاً لألم خفي، لا لإلهام إلهي.
كما يعلمنا أن التعامل مع النفس يحتاج إلى علمٍ وحكمة، لا إلى شعارات أو انفعالات.
نحن بحاجة إلى عدسة تحليلية جديدة، تميز بين الإبداع الذي يصدر من عقل متزن، والشذوذ الفكري الذي ينشأ من نفس مضطربة.
وهذه العدسة لا تمنحنا الحق في الإدانة، بل تفتح أمامنا باب الرحمة والوعي والمراجعة، وهو ما نحتاجه اليوم، أكثر من أي وقت مضى.
* وزير الصحة الأسبق