الباحث الأخير
في عالم البحث العلمي، كل سطر وكل اسم على الورقة العلمية يحمل وزناً ومعنى. وبينما تلمع الأضواء غالباً على «الباحث الأول»، ذلك الذي تصدَّر قائمة المؤلفين، يبقى «الباحث الأخير» في الظل، رغم أن مكانه هذا ليس صُدفة، بل هو في الغالب نتيجة لمكانة علمية ودور محوري في عملية البحث العلمي.
ترتيب الأسماء في الورقات العلمية ليس مسألة عشوائية، بل يعكس هيكل الجهد والمساهمة في المشروع البحثي.
الباحث الأول عادةً ما يكون هو مَنْ قاد العمل اليومي، وصمَّم التجارب، وجمع البيانات، وكتب المسودة الأولى. وهو دور مهم بلا شك، لكنه لا يكتمل من دون إشراف وتوجيه من الباحث الذي يُدرج اسمه أخيراً: الباحث الأخير.
الباحث الأخير غالباً ما يكون أستاذاً جامعياً أو باحثاً رئيسياً قاد الفريق، ووفَّر الرؤية العلمية، والتمويل، والبيئة البحثية، والإشراف الأكاديمي. هو مَنْ طرح السؤال البحثي، أو صاغ الفرضية، أو وجَّه طلابه خلال سنوات العمل الطويلة. وفي بعض الحالات، يكون هو مَنْ اختار الباحث الأول، ودرَّبه، وصقله، ليصل إلى تلك الورقة العلمية.
ومن خلال احتكاكي بالعديد من العلماء والأوساط الأكاديمية في الخارج، وجدت أنه من النادر أن تجد بروفيسوراً يتصدَّر أبحاث مختبره كباحث أول، بل تجد اسمه دائماً في نهاية قائمة المؤلفين، كمن يخطُّ توقيعه الأخير على لوحة أبدع في رسمها غيره، لكنه كان المعلِّم الذي أمسك باليد، ووجَّه الريشة، واختار الألوان. ذلك الترتيب ليس ترفاً، بل يعكس وجود «مدرسة علمية» داخل المختبر، تُخرِّج وتُصقل الباحثين، بحيث يكونون مؤهلين لقيادة المشاريع مستقبلاً. هذا هو الدور الحقيقي للباحث الأخير: أن يكون صانع أجيال، لا نجماً منفرداً.
عملية البحث العلمي، كما أراها، تشبه تسلُّق جبل شاهق. تبدأها متعلماً، تتلمَّس الطريق بعينَي غيرك، ثم تمضي بخُطاك أنت، حتى تصل إلى القمة. لكن القمة الحقيقية ليست في أن تقف وحدك على القمة، بل أن تنظر خلفك وتجد مَنْ كُنت يوماً تدرِّبهم، قد وصلوا معك أو حتى قبلك.
موقع الباحث الأخير مقدَّر في البيئات الأكاديمية الرائدة. ففي الجامعات والمراكز البحثية المتقدِّمة، يُنظر إلى هذا الموقع كمؤشر على النضج العلمي والقيادة البحثية. هناك، لا يُكتفى بتقييم الباحث بعدد منشوراته، بل يُقدَّر أيضاً بمَنْ قادهم، ومَنْ أنتجهم علمياً، ومَنْ كوَّن منهم علماء مستقلين. ومع أن ثقافة البحث في بعض البيئات ما زالت تركِّز على مَنْ «ينشر أكثر» ومَنْ «يتصدَّر»، فإن هذا التوجُّه بدأ يتغيَّر. الباحث الأخير لم يعد مجرَّد مشرف، بل أصبح ضامناً للجودة، ومرجعية علمية، ومسؤولاً أول عن مصداقية البحث ونزاهته.
التركيز فقط على الباحث الأول عند تقييم الأداء الأكاديمي، وهو اختزال ظالم لا يعكس ديناميكية العمل العلمي الحديثة. الباحث الأخير ليس مجرَّد اسم يُختم به المقال، بل هو عنوان لمرحلة نضج علمي، وشاهد على انتقال المعرفة من جيلٍ إلى جيل. فالقيمة الحقيقية لأي عالم ليست فقط في إنتاجه، بل في بصمته على مَنْ يأتون بعده.