فرنسا وبريطانيا تتفقان على تنسيق «الردع النووي»
ماكرون وستارمر يعززان التعاون العسكري في وجه المخاطر على أوروبا
في توقيت بالغ الدلالة، أعلنت كل من فرنسا وبريطانيا تعزيز وتنسيق دعمهما النووي المشترك بإطار اتفاق شامل لتعزيز التعاون العسكري، في خطوة تحمل أبعادا استراتيجية تتجاوز مجرد التعاون العسكري الثنائي، لتعبّر عن قلق أوروبي متزايد من التغيرات العميقة في العلاقة مع الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، فبينما ينتهج البيت الأبيض سياسة «أميركا أولاً»، ويبتعد تدريجياً عن التزامات واشنطن التقليدية تجاه القارة الأوروبية وحلف شمال الأطلسي، تجد الدول الأوروبية نفسها أمام تحديات أمنية متنامية، في مقدمتها استمرار الحرب بأوكرانيا على عتبة أوروبا الشرقية، في ظل فتور أميركي واضح في مواجهة التهديدات الروسية، بل وسعي ترامب إلى إبرام اتفاق سلام مع موسكو يأخذ، إلى حد ما، بهواجس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ويأتي هذا الإعلان النووي الفرنسي-البريطاني في خضم نقاش محتدم داخل أوروبا حول الحاجة إلى تحقيق استقلال استراتيجي عن واشنطن، لا سيما مع شعور متزايد بأن القارة العجوز باتت تتراجع في ترتيب القوى العالمية مقارنة بالصعود الحاد لكل من الولايات المتحدة بنسختها «الترامبية» والصين. وبينما تعود لعبة التنافس بين القوى الكبرى إلى الواجهة، تسعى أوروبا إلى إعادة التموضع كفاعل مستقل قادر على حماية أمنه، دون الارتهان الكامل للمزاج السياسي الأميركي المتقلب.
واختتم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أمس، زيارة دولة لبريطانيا استمرت 3 أيام بقمة جمعته مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، هدفها تعزيز تحالفهما العسكري، مع التركيز على تطوير الصواريخ والتعاون النووي، وعقب القمة الثنائية بين الزعيمين في داونينغ ستريت انتقلا إلى نورثوود، مركز القيادة الرئيسي للعمليات العسكرية البريطانية.
وأوضحت وزارة الدفاع البريطانية وقصر الإليزيه أن ستارمر وماكرون يؤكدان تعزيز تعاون بلديهما في مجال الردع النووي بتوقيع إعلان ينص على أنه «يمكن تنسيق» مواردهما، مضيفين أن سيادة كل من البلدين، وهما الوحيدان اللذان يملكان أسلحة نووية بأوروبا، في اللجوء إلى السلاح النووي ستبقى كاملة، لكن «أي خصم يهدد المصالح الحيوية للمملكة المتحدة أو فرنسا قد يواجه بالقوة النووية للبلدين».
لندن وباريس ستطوران أنظمة ملاحة متقدمة لحماية البنية التحتية الحيوية من التهديدات المعادية بما فيها التشويش
ويشكل الردع النووي أحد أعمدة الاستراتيجية الدفاعية التقليدية، إذ يقوم على مبدأ بسيط ومعقد في آن: منع الخصم من شن أي هجوم من خلال التأكيد على أن كلفة أي اعتداء ستكون مدمّرة وغير مقبولة. وفي السياق الأوروبي، ظل هذا المفهوم مرتبطا بشكل وثيق بالمظلة النووية الأميركية ضمن إطار الناتو، حيث كانت الترسانة النووية الأميركية تعد ضمانة أمنية حاسمة في وجه أي تهديدات كبرى، لاسيما من روسيا.
غير أن المتغيرات الدولية، خصوصا الميل الأميركي نحو تقليص الالتزامات الخارجية، دفعت الأوروبيين إلى التفكير في بدائل داخلية للحفاظ على توازن الردع. وفي هذا الإطار، يكتسب تنسيق الردع النووي بين فرنسا وبريطانيا بعداً جديداً، إذ يتيح للدولتين توحيد رؤيتهما بشأن استخدام الأسلحة النووية كأداة ردع استراتيجية، وتطوير آليات مشتركة لاتخاذ القرار والتخطيط العسكري، بما يعزز من مصداقية التهديد النووي الأوروبي.
كما أن هذا التنسيق يساهم في بناء هوية ردعية أوروبية مستقلة، ويمنح القارة العجوز قدرا أكبر من حرية الحركة في مواجهة أزمات أمنية محتملة، خاصة في ظل تفاقم التحديات على الحدود الشرقية، وتزايد الغموض في مواقف بعض الحلفاء التقليديين، وبذلك لا يُعد الردع النووي مجرد توازن قوى، بل أداة سيادية لضمان استقرار أوروبا في عصر تسوده المنافسة بين القوى الكبرى.
وقالت إيلوييز فاييه، الباحثة في القضايا النووية بالمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري)، لوكالة فرانس برس، «إنها فعلا خطوة إضافية بدرجة غير مسبوقة من التنسيق على المستويين العسكري والسياسي»، مبينة أن هذا التطور يبقى «متوافقا مع العقيدة النووية الفرنسية، وبالتالي مع البعد الأوروبي للمصالح الفرنسية الحيوية»، كما مع العقيدة البريطانية «التي تندرج تقليديا في إطار حلف شمال الأطلسي» والتعاون مع الولايات المتحدة.
وكذلك ينص الإعلان على أنه «ليس من تهديد خطر لأوروبا من شأنه عدم إثارة رد فعل من البلدين»، من دون تحديد طبيعة هذا الرد، في رسالة واضحة إلى موسكو، في وقت تخشى الكثير من دول أوروبا الشرقية طموحات توسعية روسية محتملة. وأكد ماكرون، مساء الأربعاء، خلال كلمة ألقاها في لندن، أن الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة هما «أقوى» معا.
وإضافة إلى الجانب النووي، أعلن ستارمر وماكرون تسريع برنامج صواريخ كروز سكالب/ستورم شادو المشترك، مع طلبات جديدة لمجموعة «إم بي دي إيه»، وكذلك مرحلة جديدة من مشروع لصواريخ كروز المستقبلية والصواريخ المضادة للسفن، والتي تأخّر تطويرها بعض الشيء. وكان الجانبان اتفقا على إنشاء قوة عسكرية فرنسية بريطانية مشتركة بموجب اتفاقات لانكستر هاوس، التي تؤطر التعاون العسكري بين الجانبين منذ عام 2010.
وقالت الحكومة البريطانية، أمس، إن بريطانيا وفرنسا ستطوران معا أنظمة ملاحة متقدمة تهدف إلى حماية البنية التحتية الحيوية من التهديدات المعادية، بما في ذلك التشويش على الإشارات الذي حدث خلال الحرب في أوكرانيا.
وذكر وزير التكنولوجيا بيتر كايل، في بيان، «لدى كل من فرنسا وبريطانيا طموحات كبيرة في مجال التكنولوجيا لتعزيز النمو الاقتصادي والأمن القومي»، مضيفاً: «من المهم جداً أن نعمل مع شركاء تقليديين مثل جيراننا الفرنسيين في هذه المساعي، خصوصا مع تزايد التهديدات من دول معادية».
وستستخدم هذه الاتفاقات الآن لتشكيل «أساس» تحالف الراغبين الذي أطلقته باريس ولندن مطلع 2025، والذي يجمع حوالي 30 بلدا ملتزما تعزيز القدرات الدفاعية لأوكرانيا وضمان وقف إطلاق النار بين كييف وموسكو، وهذه القوة التي من المقرر نشرها في أوكرانيا بمجرد سريان وقف إطلاق النار، ستحشد المزيد من القوات، ما يصل إلى 40 ألف جندي، ويمكن توسيعها لتشمل شركاء آخرين، بحسب الإليزيه.
ويشارك ستارمر وماكرون في اجتماع عبر الفيديو حول أوكرانيا، يضم خصوصا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ورئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس. وأفاد قصر الإليزيه بأن ممثلين للإدارة الأميركية سيشاركون مبدئيا، فيما شدد دونالد ترامب لهجته تجاه روسيا، وهدد بفرض عقوبات جديدة وتقديم معدات عسكرية إضافية للأوكرانيين.
على صعيد آخر، ناقش كير ستارمر وإيمانويل ماكرون قضية الهجرة، أمس الخميس، وهي مسألة أساسية بالنسبة لحكومة حزب العمال التي تواجه أعدادا قياسية من المهاجرين الوافدين بالقوارب عبر المانش منذ مطلع العام، وخلال اجتماع أمس الأول الأربعاء، في داونينغ ستريت، اتفقا على تحقيق «تقدم ملموس» في مكافحة الهجرة غير النظامية.
وتشكل هذه القضية الشائكة مصدرا للتوتر بين البلدين، إذ تُتهم فرنسا بالتقصير في بذل الجهود الكافية للحد من الهجرة غير النظامية، بينما تريد المملكة المتحدة، من جهتها، أن تبذل فرنسا المزيد من الجهود لمنع القوارب من مغادرة سواحلها، في حين ذكر تقرير برلماني بريطاني أن لندن قدمت أكثر من 750 مليون يورو منذ عام 2018 لتمويل تأمين الحدود.