تحديات التعليم: ضعف «المدخلات» الثانوية وبطالة «المخرجات» الجامعية

في موسم التخرج، وفي خضم التحولات الكبرى التي يشهدها العالم، وعلى وقع تطلعات الكويت نحو اقتصاد المعرفة، تتجلى أحد أكثر التحديات إلحاحاً في قطاع التعليم، والتي لا تكمن فقط في إشكاليات البرامج الجامعية أو سياسات القبول فيها، بل تبدأ من منبعٍ أسبق يعود الى ضعف «المدخلات» الثانوية - إن صح التعبير- أي تراجع المستوى الأكاديمي لطلبة المرحلة ما قبل الجامعية في المدارس الحكومية والخاصة على حد سواء، وهو ما يلقي بظلال ثقيلة على جودة «المخرجات» الجامعية لاحقاً.
الفروق بين المدارس الحكومية والأهلية تفاقم الفجوة، ولكل منهما تحدياته الخاصة، إذ ينصرف كثير من المدارس الخاصة الى القشور الدعائية والأنشطة الترفيهية أكثر من تركيزها على عمق التحصيل العلمي، مع اعتماد مفرط على اللغات الأجنبية مقابل إهمال اللغة العربية، في حين تعاني المدارس الحكومية جميع أوجه المعاناة التقليدية التي تحد من إنتاجية الجهات الحكومية.
ولهذا الواقع انعكاسات مباشرة وخطيرة تؤدي إلى ضعف التعليم الثانوي والجامعي تبعاً لذلك، إذ تشير البيانات إلى ارتفاع نسبة البطالة المقنّعة بين حَمَلَة الشهادات الجامعية، وهو ما ينذر بالقلق مع توجه كثير من الطلبة - إرادياً أو وفق نظام البعثات - إلى تخصصات غير مطلوبة في السوق، بينما تُسجَّل فجوات كبيرة في مجالات مهمّة ومعاصرة مثل الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، والطاقات المتجددة. ولعل المتتبع لاحصاءات الباحثين عن عمل في بيانات ديوان الخدمة المدنية ما يؤكد هذه الحقائق، رغم وجود عدد من الشواغر الوظيفية في القطاع الخاص، مما يدل على عدم تطابق المهارات مع احتياجات السوق الفعلية.
في خضم هذا المشهد، تبرز بوادر مشجعة تبعث على التفاؤل، لعل أبرزها ما أعلنته وزارة التربية أخيراً من خطوات فعلية نحو تعديل جذري للمناهج، انطلاقاً من رياض الأطفال وحتى الصف التاسع، وفق فلسفة تعليمية جديدة ترتكز على القيم والمهارات والمعارف. ويُسجَّل لوزارة التربية أنها قدّمت هذا المشروع الطموح إلى القيادة السياسية العليا، حيث حظي بثناء مستحق من سمو أمير البلاد، بما يعكس اهتمام الدولة بالتعليم كأولوية استراتيجية. ومن المؤمل أن يُسهم هذا التوجه في تقوية المراحل التأسيسية، بما يشكّل رافعة حقيقية لتحسين جودة التعليم الثانوي والجامعي مستقبلاً.
وإذا كانت وزارة التربية قد خطت خطوات إصلاحية مشهودة في تطوير المناهج، فإن نجاح هذه المبادرة يظل مرهوناً بتوفير بيئة مؤسسية داعمة تُترجم الأفكار إلى نتائج قابلة للقياس، ويُستكمل بإصلاحات شاملة تطال تأهيل المعلمين، وتحديث أدوات التقييم، وربط التعليم بسوق العمل ومهارات العصر، مثل التفكير النقدي وحل المشكلات والذكاء العاطفي، للانتقال من الحفظ إلى الفهم. كما تبرز أهمية «التوجيه المهني المبكر» في المرحلة الثانوية، لتوجيه الطلبة نحو مسارات تتناسب مع قدراتهم واحتياجات الدولة، إلى جانب مبادرات نوعية واعدة، مثل مشروع «مدارس الأفق» الذي يستند إلى نموذج تعليمي عالمي يعيد رسم أدوار المدرسة وفق معايير الجودة والابتكار. على مستوى التعليم الجامعي ذاته، تبرز جملة من المثالب البنيوية التي تقوّض جودة المخرجات، من أبرزها جمود المناهج وضعف المواءمة مع مستجدات المعرفة والتكنولوجيا، فضلاً عن هيمنة الطابع النظري على معظم التخصصات، وافتقار البرامج إلى التدريب العملي الجاد والشراكة الفعلية مع القطاع الخاص. هذا بالإضافة إلى جنوح بعض الجامعات إلى النمط التسويقي الذي يترافق مع ضعف الأداء الأكاديمي، فضلا عن غياب التقييم المهني الحقيقي لمستوى هيئات التدريس والبرامج في بعض الكليات، وافتقار جانب من البيئة الجامعية إلى ثقافة البحث العلمي المنتج، مما يحوّل الجامعة إلى مؤسسة تمنح شهادات أكثر مما تصنع كفاءات.
وفي سياق متصل، يُعدّ نظام الابتعاث في الكويت من أبرز أدوات الدولة لبناء رأس المال البشري، عبر إتاحة فرص الدراسة محلياً وخارجياً في جامعات مرموقة، بميزانيات ضخمة تصل إلى مئات الملايين من الدنانير. ورغم مزاياه، يواجه البرنامج تحديات أكاديمية تقلّل من فعاليته، من أبرزها: صعوبة انتقال المبتعثين داخليا إلى الدراسات العليا الخارجية، وضعف الاستفادة من تخصصات المبتعثين في سوق العمل. ومع ذلك، فإن تطوير هذا النظام وضبطه كفيل بتحويله إلى أداة استراتيجية تتيح للطلبة المستحقين والكفوئين الانخراط في أنظمة تعليمية متقدمة وتخصصات نوعية تدعم خطط التنمية الوطنية.