إعادة هيكلة وزارة الصحة... بين ضرورة الإصلاح وخصوصية الرسالة

نشر في 07-07-2025
آخر تحديث 06-07-2025 | 18:41
 محمد الجارالله

نشرت جريدة «الجريدة»، أخيراً، تحقيقاً موسعاً تناول توجُّه الحكومة لإعادة هيكلة الوزارات وتقليص عدد القياديين فيها - عدا الوزير - إلى 3 فقط، هم الوكيل ووكيلان مساعدان، وذلك ضمن خطة طموحة لترشيق الجهاز الإداري وتقليل الهدر المالي والبشري، وصولا إلى كفاءة وعدالة أكبر في توجيه الموارد الوطنية.

وقد عرض التحقيق نماذج أولية لهياكل وزارات عدة، منها وزارة التربية، التي بدا هيكلها متشعّباً يضم عشرات الإدارات والوحدات والمساعدين، وهو ما أثار لديّ مشاعر مزدوجة من التقدير والقلق، تقدير لتحرّك الحكومة أخيراً لمعالجة تشوهات الهيكل الإداري المتراكم منذ عقود، وقلق من تكرار هذا النموذج المتضخم في وزارة الصحة، من دون مراجعة فلسفية جذرية لطبيعة دورها ومهامها المقبلة.

وزارة الصحة... طبيعة مختلفة عن «التربية»

تختلف وزارة الصحة جوهرياً عن وزارة التربية من حيث طبيعة الرسالة والمجال والمسؤولية، فبينما ستظل وزارة التربية مسؤولة عن مئات الآلاف من الطلبة والمعلمين بلا تغير جوهري في حجم جمهورها المستهدف، فإن وزارة الصحة تقف اليوم على أعتاب مرحلة تاريخية فاصلة، إذ يوشك تشغيل مستشفيات الضمان الصحي على الاكتمال خلال عامين أو ثلاثة، ليخرج من عباءتها التشغيلية نحو مليوني وافد، وينخفض بذلك عدد المستفيدين من خدماتها من خمسة ملايين إلى ثلاثة فقط. وهنا ستتحول الوزارة من جهاز ضخم مثقل بالتشغيل اليومي إلى وزارة تنظيمية رقابية عليا تضع السياسات الصحية وتشرف على تطبيقها وتراقب جودتها، مركّزة على صحة المواطنين أولًا، باعتبارها أولوية الدولة الكبرى.

قفزة كبيرة في مستشفيات الضمان بعد توافق الهيئة والشريك

في الأسبوع الماضي، حققت مستشفيات الضمان الصحي قفزة كبيرة غير مسبوقة، إذ تم إغلاق الملف القانوني العالق بين الهيئة العامة للاستثمار والشريك الاستراتيجي من القطاع الخاص، بعد تدخُّل مباشر من الحكومة ممثلة بالرئيس والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء لحل الإشكاليات التي ظلّت تعيق المشروع لسنوات.

هذا التوافق التاريخي يمهّد الطريق فعليًا لانطلاقة مستشفيات الضمان، ويعكس إرادة سياسية عليا لتحقيق هدف وطني طال انتظاره، الأمر الذي يفرض على وزارتي الصحة والمالية مضاعفة الجهود لتحقيق هذا التحول وافتتاح المستشفى بأسرع وقت. ومن هنا تتعزز أهمية إعادة هيكلة وزارة الصحة وفق رؤية فلسفية عميقة تراعي دورها الجديد، بدل الاكتفاء بنقل نماذج هيكلية تقليدية لا تناسب طبيعة المرحلة المقبلة.

خروج مليوني وافد... لحظة مفصلية

إن خروج نحو مليوني وافد إلى مظلة الضمان الصحي يمثّل لحظة مفصلية في مسيرة وزارة الصحة، إذ يخفف عنها عبئاً ضخماً، ويتيح لها التركيز على أدوارها الرقابية والتخطيطية في الإدارة الحديثة بدل التشغيل المباشر المرهق والمهدر للأموال، كما فعلت دول الخليج التي نقلت ملكية المستشفيات إلى شركات تشغيلية تابعة للسيادة الوطنية، لكنها تعمل وفق معايير القطاع الخاص وبكفاءة أعلى.

فجوة الأداء بين «الصحة» والقطاع الخاص

تكشف مقارنة سريعة بين إدارة المستشفيات الحكومية والخاصة عن عمق الخلل، وقد أجريتها قبل 20 عاما ولا تزال كما هي، ففي حين يدير القطاع الخاص موارده البشرية بكفاءة عالية وتخصص وظيفي دقيق ومحاسبة إنتاجية صارمة، نجد المستشفيات الحكومية مثقلة بموظفين إداريين بأعداد تفوق مثيلاتها دون مردود إنتاجي موازٍ. إذ تتداخل المهام وتتشوش المسؤوليات ويضعف الإنجاز، بينما معدل العمليات الجراحية للطبيب في الوزارة لا يتجاوز 3 عمليات شهريًا مقابل 40 أو 50 في القطاع الخاص، ليس بسبب ضعف الكادر الطبي أو عدم إخلاصه، بل بسبب بيروقراطية النظام الإداري وبطء الإجراءات وغياب ربط الأداء بالنتائج.

غياب الحوكمة والمساءلة في النظام الصحي

ورغم أن معدل إنفاق وزارة الصحة يفوق القطاع الخاص بكثير، فإن العائد يظل ضعيفًا. وكذلك الرقابة على القطاع الحكومي، والدليل أن الإعلام الصحي الرسمي يركز على مخالفات القطاع الخاص ويغفل تمامًا عن مخالفات الوزارة، رغم أنها تقدّم أكثر من 85 بالمئة من الخدمات الصحية في البلاد، ومخالفاتها وأخطاؤها يعرفها الجميع، فلم تغلق عيادة ولا مستوصف حكومي واحد.. ولا صيدلية.. ولا تزال الوزارة تفتقر إلى نماذج تشغيلية قائمة على الإنتاجية والجودة، وإلى حوكمة مؤسسية شفافة ونظام معلومات صحي موحد يربط الموارد بالمؤشرات، ويتيح رؤية استراتيجية دقيقة لصانع القرار. ولن تتمكن من ذلك مهما كان إخلاص المسؤول والموظف.

إصلاح جذري يليق بمرحلة الإصلاح

إن إعادة هيكلة وزارة الصحة يجب ألا تكون مجرّد تقليص قياديين أو دمج إدارات، بل إعادة تعريف لدورها كوزارة تنظيمية رقابية عليا، مع تحويل مستشفياتها إلى شركات تشغيلية تابعة لهيئة الاستثمار تُدار باحترافية، وفتح شراكات استراتيجية حقيقية مع القطاع الخاص ضمن نماذج حوكمة تضمن الجودة والعدالة والكفاءة.

كما يلزم إعادة توزيع القوى العاملة وتدريبها لمكافحة التضخم الوظيفي والبطالة المقنعة، وإدخال التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي في إدارة الموارد والتنبؤ بالاحتياجات والتخطيط البشري، لضمان استدامة النظام الصحي ورفع تنافسيته خليجيًا وعالميًا.

كلمة أخيرة

وزارة الصحة اليوم أمام لحظة تاريخية تتطلب شجاعة القرار وعمق الرؤية وتحرراً من الأنماط القديمة، وإن شاء الله لن ينقصها ذلك في العهد الجديد، فالغاية ليست بناء هيكل جميل على الورق، بل بناء نظام صحي عصري يليق بكرامة الإنسان الكويتي والمقيم، ويحفظ جودة الرعاية، ويوقف الهدر، ويضع الصحة في قلب الأمن الوطني والاجتماعي والاقتصادي للدولة.

فالوفرة المالية وأسعار النفط لن تدوم إلى الأبد، فلنستعد لذلك اليوم ببناء أنظمة قوية مستدامة تحفظ الكويت وأهلها.

* وزير الصحة الأسبق

back to top