نزيه الحكيم: الشاعر والقاضي كلاهما يسعى للعدل

• «المحامي المبدع» يتنقل بين أغصان القصيدة وأروقة المحاكم

نشر في 04-07-2025
آخر تحديث 03-07-2025 | 19:40
الحكيم في بداية شبابه مع الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي
الحكيم في بداية شبابه مع الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي
حين يمتزج القانون بالشعر نكون أمام إبداع لا يشبه سوى نفسه، وتلك هي تجربة الشاعر والمستشار القانوني المصري، نزيه الحكيم، الذي يحمل في جعبته عالَمين: عالم المحاكم بصرامته ودفوعاته، وعالم القصيدة بانسيابيتها وحرّيتها، وهنا يكون السؤال المحير: كيف يوفق بينهما؟ وأين يلتقيان؟ في هذا الحوار، الذي أجرته معه «الجريدة»، نغوص في أعماق تجربة «المحامي المبدع» كما يسمّيه زملاؤه في الوسط الإبداعي وفي أروقة المحاكم، ننطلق معه من لغته الشعرية التي تتراوح بين الفصحى والعامية، خصوصاً المربعات الشعرية، أو ما يُعرف بـ «فن الواو» إلى رؤيته لحريّة التعبير بين الفن والقانون، مروراً بتأثره بالشاعر الكبير الراحل عبدالرحمن الأبنودي، ووصولاً إلى مشروعاته الإبداعية الجديدة. حوارٌ يكشف عن رجلٍ يؤمن بأن الكلمة - سواء في المحكمة أو في القصيدة - قادرةٌ على صنع التغيير.. وفيما يلي نص الحوار.

• كيف تتعايش داخلَك شخصية المحامي المُنظّم مع روح الشاعر المتحرر؟ وهل تسمح لأحدهما أن يطغى على الآخر حين تكتب؟

- أومن بأن الإنسان لا يُختزل في مهنة أو موهبة، بل هو نهر تتلاقى فيه منابع شتى. روح المحامي داخلي تتطلب الانضباط، والحجة، والمنطق، أما روح الشاعر فهي النور الذي ينفذ من فراغات الواقع ليضيء المعنى الأعمق. لا أطغى بأحدهما على الآخر، بل أسمح لهما بالجدال الخفي، فيسائل الشاعر المحامي، ويُراجع المحامي الشاعر، حتى تخرج الكلمة موزونة بالعقل نابضة بالشعور.

• بين الفصحى والعامية، أين تجد صوتك الأصدق؟ وهل ترى أن العامية قادرة على حمل ما تحمله الفصحى من عمق وفلسفة؟

- كلاهما من لغتي الأم. الفصحى تحمل المهابة والتراث، وتصلح للصياغات التي تتطلب التجريد والدقة، أما العامية فهي رحيق اليومي، ونَفَس الناس، ومختبر الوجدان الحي. أكتب بالفصحى حين أريد للقصيدة أن تُخاطب التاريخ، وبالعامية حين أرغب أن تُحادث الناس في المقاهي والطرقات. والعامية المصرية - على وجه الخصوص - أثبتت قدرتها على احتواء الفلسفة، والسخرية، والحب، والتمرد، وكل ما يمكن أن يحتمله الشعر من مشاعر.


 الشاعر والمستشار القانوني نزيه الحكيم الشاعر والمستشار القانوني نزيه الحكيم

الأبنودي استمع إليّ بكامل قلبه لا بنصف أذنه

• في عصر التغريدات السريعة، كيف تحافظ على شاعريتك دون أن تفقد اتصالك بالجمهور؟ وأين تقف حرية التعبير بين القانون والشعر؟

- الشاعر لا ينافس الزمن، بل يسرق لحظته منه. أُدرك تمامًا أن الجمهور اليوم يعيش في إيقاع متسارع، لذا أحاول أن أكتب نصوصًا تحتفظ بجمالياتها، دون أن تكون غريبة عن هذا الإيقاع.

أما حرية التعبير، فهي حقٌ لا يُنتزع، لكنها أيضًا مسؤولية. الشعر قد يتجاوز القانون أحيانًا من حيث الرمزية أو الحلم، لكنه ينبغي ألا يتنكّر لجوهر العدالة، أو أن يُستخدم غطاءً للتشويه. أومن بأن الشعر هو الوجه الجمالي للحرية، لا سلاحها الفوضوي.

• كيف توفّق بين دقة القانون التي تمارسها وحرارة «المربعات» الشعرية التي تكتبها؟ هل يلتقيان عند نقطة ما؟

- في أعماق كل قانون عادل يوجد شعر مخفي. وفي كل بيت شعر صادق، تكمن عدالة. «المربعات» الشعرية، أو ما يُعرف بـ «فن الواو» في صعيد مصر، بما تحمله من اختزال وقوة وجدل، لا تختلف كثيرًا عن دفوع المحامي أو منطوق القاضي، لكنهما يتحدثان لغتين. أوفق بينهما حين أُحاكم القصيدة كما أُحاكم الفكرة: ما حجتها؟ هل تقنع؟ هل تُشعل القلب أم تُثير العقل؟ وعند هذه النقطة، يلتقي القانون بالشعر.

• كتبت أغنيات لفنانين كُثر، منهم هاني شاكر.. حين تتحول قصيدتك إلى أغنية، هل تشعر أنها تظلّ ملكًا لك؟

- القصيدة، حين تُغنّى، تخرج من ذاتي لتسكن في أفواه الناس. لا أغار على النص من الغناء، بل أحتفل به، لأن الموسيقى تمنحه عمرًا أطول وجمهورًا أوسع. لكني أحرص على أن تُغنى القصيدة بروحها لا بحروفها فقط. النص الأصلي هو الجذر، واللحن هو الأغصان. قد يغيّر اللحن بعض الظلال، لكنه لا يُفقد المعنى جذوره إذا كان أمينًا.

• هل تجد نفسك أحيانًا تستعير من قاموس المحكمة في قصائدك؟ وكيف تتعامل مع الفرق بين منطق القانون وإيحاء الشعر؟

- كثيرًا ما تندسّ مصطلحات القانون في قصائدي دون قصد واعٍ، ربما لأنني أعيش بين المرافعات والدفوع. لكن الشعر لا يحتمل الجفاف، لذا لا أسمح للمصطلح القانوني بالدخول إلا إذا أعاد تشكيل نفسه بصورة إيحائية أو ساخرة. القانون يعتمد على الإثبات، أما الشعر فيُراهن على الإلهام. كلاهما يسعى للحقيقة، لكن من طريقين متوازيين.

الكلمة تصنع التغيير

• بين مهنتك وشعرك، كيف ترى دور الكلمة في زمننا؟ وهل يمكن للقصيدة أن تكون وسيلة للتغيير، كما هي الحال في القضاء؟

- الكلمة، سواء نطقت بها في المحكمة أو كتبتها في قصيدة، تظل سلاحًا حضاريًا. أنا ابن عصر يؤمن بأن التغيير لا يصنعه الرصاص، بل تصنعه الكلمة التي تحرّك وعيًا. القصيدة قد لا تُغيّر قوانين، لكنها تُغيّر ضمائر. والشاعر، كالقاضي، يشهد على عصره، الأول يُصدر أحكامًا وجدانية، والثاني يُصدر أحكامًا قانونية، وكلاهما يسعى لعدل ما.

الشعر هو الوجه الجمالي للحرية لا سلاحها الفوضوي

• حدثني عن لقائك بالشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودي، وهل تأثرت به؟ وهل ثمة من يستطيع ملء الفراغ الذي تركه، أم أن تجربته كانت استثنائية؟

- لقائي بالأبنودي لم يكن عابرًا، بل كان لحظة فاصلة في وعيي كشاعر. كنت شابًا يكتب العامية بقلبه، ووجدت أمامي قامة تعرف كيف تُنصت للنص لا للّغة فقط. استمع إليّ بكامل قلبه، لا بنصف أذنه، وكان كريمًا في تشجيعه، حنونًا في ملاحظاته، وشفافًا في رؤيته لما أكتبه. شعرت وقتها أنني لا ألتقي شاعرًا فقط، بل ألتقي مرآة لما يمكن أن أكونه يومًا ما.

لا أنكر أنني تأثرت به في بداياتي، كما يتأثر كل من يكتب العامية بموسيقاه وسلاسة لغته، لكنني كنت حريصًا على ألّا أذوب فيه. كتبت بأسلوبي، وبموسيقاي، وبنبض جيل مختلف. وحين بدأ صوتي يتشكل مستقلًا، شعرت أنه يُتابع ذلك بتقدير صامت، لا بحساسية الكبار، بل برضا الآباء.

أما عن الفراغ الذي تركه، فهو بلا شك فراغ كبير، لأن الأبنودي لم يكن شاعرًا فقط، بل كان ذاكرة وطن. لكنّ الشعر لا يعرف الفراغ التام، بل يعرف الامتداد والتجدد. لن يملأ أحد مكان «الخال» الأبنودي، لكن ستظهر أصوات تحمل روحه وتضيف عليها. ربما كنت من هؤلاء، وربما كنت أحمل شيئًا مختلفًا، لكن في كل الأحوال ستظل تجربته استثنائية، لأنها لم تكن تكرارًا لغيره، ولا يمكن تكرارها هي ذاتها.

• أخيرًا، ما جديدك الإبداعي الذي تعكف على كتابته حاليًا وقد يخرج للنور قريبًا؟

- أعمل حاليًا على ديوان جديد يدمج بين فن الواو وبلاغة العامية، لكن بروح معاصرة تُخاطب جيل اليوم، من دون أن تفقد احترامها للتقاليد. كما أضع اللمسات الأخيرة على مجموعة من «مربّعات الحكمة»، وهي نصوص قصيرة تشتبك مع قضايا المجتمع من زاوية شعرية، وربما تُحوّل لاحقًا إلى عمل مسرحي غنائي يعيد لهذا الفن مكانته. وأومن أن كل نص جديد هو محاولة للإنصات أكثر، لا للصراخ أعلى.

back to top