تقرير اقتصادي: متلاعبو البورصة... يستهدفون عودة فوضى ما قبل تأسيس هيئة الأسواق
صعود الأسهم من الإفلاس إلى الدنانير ليس فرصة استثمارية... بل تلاعب واحتيال
تواجه هيئة أسواق المال، هذه الأيام، تحدّياً جوهرياً في ضبط سلوكيات المتلاعبين في البورصة الذين يستهدفون - على ما يبدو - العودة إلى مرحلة ما قبل إنشاء الهيئة في الكويت.
وبداية، ربما من الإنصاف القول إن الهيئة مهما كانت الملاحظات بشأنها، إلا أنها تعتبر من أفضل الهيئات المعنية بالشأن الاقتصادي، إذا ما قورنت مع جهات حكومية اقتصادية أخرى، كصندوق المشروعات الصغيرة والمتوسطة، أو هيئة الشراكة بين القطاعين العام والخاص، أو الجهاز الفني لمشاريع التخصيص، أو هيئة حماية المنافسة، أو هيئة تشجيع الاستثمار المباشر، إذ حققت - بشكل مباشر أو غير مباشر منذ تأسيسها عام 2010 - العديد من الأهداف الاقتصادية والمالية، كترقية البورصة في مؤشرات الأسهم العالمية، أو النجاح النسبي لخصخصتها وقواعد احتساب الأرباح وتصنيف الأصول، لكن الحدث الأهم طوال السنوات الماضية تمثّل في رفع كفاءة عقاب وتغريم المتلاعبين في البورصة من الذين يقومون بتعاملات مخالفة للقانون، أو يصدرون توصيات بعيدة عن قواعد التحليل الفني والمالي.
أزمة عام 2008 كشفت أن أسهماً قادت نجومية السوق لم تكن أكثر من أوهام
أوهام ونجوم
ومع التأكيد أن المخالفات في سوق المال لم تختفِ بشكل كامل أو تزول تماماً، إنما تقلّصت إلى حدّ كبير مقارنة بالسنوات التي سبقت تأسيس الهيئة، عندما كانت المخالفات والممارسات الضارة وتجارة الشركات الورقية ذات الأصول الوهمية والتعاملات المسمومة رائجة وتتضاعف أسعارها دون رقيب، حتى جاءت الأزمة المالية العالمية عام 2008، فإن الجميع اكتشفوا أن عدداً غير قليل من الأسهم التي قادت صعود السوق ونجوميته لم تكن أكثر من أوهام يقف وراءها مُلّاك شركات بلا أصول ولا مشاريع ولا حتى موظفين.
ضرورة التشدد مع تجارة الشركات الورقية ذات الأصول الوهمية والتعاملات المسمومة
أسعار فلكية
لذلك، فإن ما شهدته البورصة في الأسابيع الأخيرة من تعاملات تضاعفت فيها أسعار بعض الأسهم المدرجة بنسب فلكية تتجاوز 4500 بالمئة، قبل أن تنهي تداولات النصف الأول من العام على صعود بـ 2000 بالمئة من دون إفصاح واضح عن سبب معيّن للصعود القياسي، فالتذبذب الحادّ أمر يجعل مسألة استخدام أدوات الرقابة أمراً جوهرياً، خصوصاً إذا علمنا أن أرقام الصعود الفلكية وما يتبعها من تعاملات عنيفة وتذبذبات وتقلبات حادة ليست مرتبطة بسهم واحد، بل بعدد من الأسهم التي تضاعفت قيمتها دون إفصاح أو مبرر بـ 200 الى 400 بالمئة، كما سبق هذه التعاملات الفلكية تداولات قياسية لسهم أو سهمين تجاوز معدل دوران الأسهم فيهما 3000 بالمئة، وهذه كلها تعاملات تستهدف هزّ الثقة بالسوق ومهنية التداولات، والعودة بالبورصة إلى سنوات التلاعب والتعاملات المشبوهة، فصعود الأسهم من الإفلاس إلى الدنانير دون مبرر ليس فرصة استثمارية، بل تلاعب واحتيال ينطوي عليهما ضحايا كثر، خصوصاً من صغار المساهمين وأصحاب المدّخرات.
نحتاج إلى نقاش لتطوير السوق وليس الانشغال بتعاملات مشبوهة تجاوزتها العديد من الأسواق المالية لا سيما «الخليجية» القريبة
ومع تأكيد أن محاولات التلاعب وخرق الأنظمة المستقرة لن تتوقف طالما كانت التداولات متاحة، إلّا أن تطبيق القانون وتفعيل اللوائح الخاصة، لا سيما المعمول بها في اللائحة التنفيذية للكتاب الرابع عشر «سلوكيات السوق والكتاب العاشر - الإفصاح والشفافية»، المتعلقة بشأن التلاعب بسعر الورقة المالية والتواطؤ بشأن أسعارها وإجراء تعاملات وهمية بهدف حثّ الآخرين على رفع أو خفض السعر، أو خلق ظروف تداول غير متكافئة وتضليل المتداولين، فضلاً عن ترويج بعض كبار الملّاك لأسعار مستقبلية، كل ذلك يستوجب فتح تحقيقات من الجهة الرقابية في هيئة أسواق المال وإعلان نتائج التحقيق لعموم المتداولين، سواء بيّنت النتائج وجود مخالفات في تداولات هذه الأسهم أو لم تتوصل الى نتيجة واضحة.
بعض سلوكيات المتلاعبين في السوق تستدعي درجات أعلى من الابتكار لدى جهات الرقابة
ولعل بعض سلوكيات المتلاعين في السوق تستدعي درجات أعلى من الابتكار لدى جهات الرقابة، كأن تلزم الشركة التي يشهد سهمها تعاملات غير اعتيادية، سواء في السعر أو الكمية بعقد مؤتمر شفافية عاجل مماثل لمؤتمرات شركات السوق الأول، حيث يطرح المتداولون الأسئلة كافة على مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية، أو أن تُخضع هيئة الأسواق كل إفصاحات هذه النوعية من الشركات، لا سيما تعاملاتها مع الأطراف ذات الصلة، لمزيد من التدقيق والرقابة.
أرقام الصعود الفلكية وما يتبعها من تعاملات عنيفة وتذبذبات وتقلبات حادة ليست مرتبطة بسهم واحد بل بعدد من الأسهم
تطوير ونقاش
ولعل من المؤسف أن سوق المال يحتاج إلى نقاشات تطويرية أوسع، تتعلق مثلاً بتحقيق متطلبات ترقية بورصة الكويت إلى الأسواق المتقدمة، أو طرح أفكار لإنشاء بورصة ثانية تتنوع فيها خيارات الإدراج والتداول والأدوات المالية، أو على الأقل اتخاذ إجراءات محفزة لإدراج الشركات الكويتية داخل الكويت وليس البورصات الخليجية، فضلاً عن ضبط قواعد الانسحاب من البورصة، أو تصفية الشركات المدرجة لحماية حقوق جميع المساهمين، وليس الانشغال بتعاملات أقل ما تُوصف به أنها مشبوهة تجاوزتها العديد من الأسواق المالية، لا سيما الخليجية القريبة.