اتَّـقِ غضبةَ الحليمِ
قال حكيمُ العرب أكْثَمُ بنِ صَيْفِيِّ الأُسَيْدِيُّ: «احذرْ غضبَ الحليم، وإملالَ الكريم».
وجاء في أمثال العرب: «إنْ كنتَ ريحاً فقد لاقيتَ إعصاراً».
وقال الشاعر:
إنَّكَ إنْ كلَّـفْـتَـني ما لم أُطقْ
ساءَك ما سرَّكَ مني من خُلُقْ
وأقول: لا ريب عندي أن كل من كانت به مُسكة من إنسانية أدان ذلك التفجير الآثم الذي ارتكبه انتحاري مجرمٌ لا يمتُّ إلى الإنسانية بصلة فضلاً عن الدين والتدين، في كنيسة مار إلياس بدمشق، ولم يقف الأمر عند الإدانة بل هرع الناس والمسؤولون والوزراء إلى مكان الحادث متكاتفين متعاضدين معلنين بدمائهم وقوفهم إلى جانب إخوانهم.
وقد كتبت مشاركاً أهلنا فيما أصابهم: شلت يمين كل من أراد بأهلنا في سورية سوءاً، وعزاؤنا لأهالي ضحايا المجزرة الآثمة التي وقعت في الكنيسة... قلوبنا معكم... ومصابكم مصابنا... وألمكم ألمنا... دفع الله عنكم وعنا وعن بلادنا كل مكروه.
ثم سمعتُ تطاولاً لا يليق، وخطاباً ينال من ثورتنا ونصرنا ويحمِّل الأمور على غير محملها، فقلت: كلُّ من تسوِّلُ له نفسُهُ المريضة التعرض لما حقَّقه شعبٌ كان مقهوراً، فصبر وصابر، وجهد وجاهد، حتى أزاح الغُمَّة والظلم والظلام عنه، سيعرض نفسه المريضة لغضبة الملايين الذين عانَوا وقُهروا وخُذلوا... ثم انتصروا بعد ما ظُلموا... فحَذارِ ثم حَذارِ... سيسلقونه بألسنتهم... ويمزِّقونه بأظفارهم... ويقطِّعونه بأسنانهم... ويغرقونه ببُصاقهم... ولا عزاءَ للخونة... ولا مكانَ للخائنين!
وأقول أيضاً: يبدو أن بعضَ المارقين غرَّهم طولُ بال الحكومة، وسَعةُ حلمِ وزرائها ومسؤوليها، وصبرُهم على ما يلقَون من أذى وسفهٍ، وسوء أدب في الخِطاب، ورُعونات ونَفَثات خبيثة، لا تخلو من تشبيح وتنبيح، من هنا وهناك، (من يللي يسوا ومن اللي ما يسواش).
وغرَّهم قبل ذلك كلِّه ما قد رأَوه من حكمةِ السيد الرئيس، وسياسته، وحلمه، وصبره، وطول أناته، وأخذِه بمبدأ جدِّه العظيم معاويةَ بنِ أبي سفيان الأموي، الذي كان يقول:
«يَا بَنِي أُمَيَّةَ فارقوا قُرَيْشًا بِالْحِلْمِ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَلْقَى الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيُوسِعُنِي شَتْمًا وَأُوْسِعُهُ حِلْمًا، فَأَرْجِعُ وهو لي صديق، إن استنجدتُه أنجدني، وأثورُ به فيثور معي، وما وضع الْحِلْمُ عَنْ شَرِيفٍ شَرَفَهُ، وَلَا زَادَهُ إِلَّا كَرمًا».
وروى أبوعبيدةُ معمَر بن المثنى أنَّ معاوية كان يتمثَّل بهذين البيتين كثيراً:
فَمَا قَتَلَ السَّفَاهَةَ مِثلُ حِلمٍ
يَعُودُ بِهِ عَلَى الجَهلِ الحَلِيمُ
وَلَا تُفْحِشْ وَإِنْ مُلِّئْتَ غَيْظًا
عَلَى أَحَدٍ فَإِنَّ الْفُحْشَ لُومُ
وقديماً قيل: حِلْمُ معاويةَ قتلَ الرجل.
وإن أخشى ما أخشاه أن يقتل حلمُ رئيسِنا بعضَ هؤلاء السفهاء، أو أن تنهال عليهم شحَّاطةُ أمِّ أحمد، تلك الحرَّة الأبية، التي لم تصبر على تشبيحٍ ملأ حيَّها، فانهالت على صاحبته بالكفِّ (أي بالطراق بلهجة أحبابنا الكويتيين) وبالشحَّاطة (ألا سلِمت يداها وكثُرت شحاطاتها).
وأقول لها بلسان الجواهري: سلِمتِ ويسلَمُ الكفُّ.
وأذكِّر هؤلاء السفهاء بقول الشاعر:
احْذَرْ مَغايظَ أقوامٍ ذَوي أنَفٍ
إنَّ المَغيظَ جَهولُ السَّيْفِ مَجْنونُ
فليحذرْ هؤلاء القومُ قبل أن تأتي عليهم عادية، وتنوبهم نائبة، وتحل بدارهم مصيبة، وإياهم ثم إياهم أن يكونوا كمن قيل فيه: «مَن أَمِن العقوبةَ أساءَ الأدب».
فإن الله سبحانه يقول: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [سورة الشورى: 40]. ويقول: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾ [سورة الشعراء: 227] ويقول جلّ وعلا: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [سورة الشورى: 41] وَيقول: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ [سورة النساء: 148]
فإن لم يسمعوا كلام المولى سبحانه، وأشاحُوا بوجوههم، كما كان المنافقون يشيحون بوجوههم لدى سماعهم الآيات تُتْلى في زمن النبي، صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، فليتَّقوا غضبةَ الحليمِ إذا غضِبَ، فغضبُه يدلُّ على أنَّ ما اقتُرِفَ في حقِّه خرجَ عن حدِّ التَّحلُّمِ، وأنَّ صاحبَه يستحقُّ العقوبةَ، ولْيأذَنُوا بحربٍ من شعبٍ مكلوم، طالَ ليلُ الظلم عليه، ثم انبلَج فجر العدل، فهو به فرِحٌ جَذْل، ولن يسمحَ لأحد مهما كان أمره، وطال لسانه، وقلَّ أدبه، أن يعيده إلى عهود القهر والذلِّ والمسكنة، لا ريب أنه سيعدو عليه ولسانُ حاله يردِّد قول عمرو بن كلثوم:
أَلا لا يَجْهَلَنْ أحَدٌ عَلَيْنا
فَنَجهَلَ فوقَ جَهلِ الجاهِلينَا