بيروت تنتعش...

نشر في 29-06-2025
آخر تحديث 28-06-2025 | 19:52
 د. منيرة عبدالكريم العجلان

بأهلها.... ليس في الأمر مبالغة ولا شاعرية زائدة، بل هي الحقيقة التي تلمسها في كل زاوية، وفي كل وجه، وفي كل ضحكة تسمعها في المقاهي القديمة، أو بين جدران الأزقة المزخرفة بتاريخ لا يُمحى. زرت بيروت أخيراً، وكأنني التقيت حبيباً قديماً، فبيروت ازدادت جمالاً ورقة، رغم كل ما مرَّت به.

بيروت كانت دوماً جميلة، والآن... هي أجمل وأجمل.

كأنها تعلمت من كل ألمٍ أن تصير أكثر بريقاً، ومن كل عثرة أن تنهض وتزهو بأناقة. بيروت لا تكسرها الظروف، بل تصقلها. الناس فيها يُحسنون تجميل الواقع مهما اشتد، ويُتقنون فن الحياة بكل ما فيه من تناقض.

في زيارتي الأخيرة، لم تكن الرحلة مجرَّد سفر، بل كانت عودة إلى الذات. تذكَّرت أيام مراهقتي، حين كُنت أقضي عطلة الصيف بكاملها في جبال لبنان الخضراء، ثلاثة أشهر من الفرح والحُرية والهواء النقي. كانت الجبال لي بيتاً وملجأ، ولبنان لي وطناً ثانياً. ثم بدأت الأوضاع تسوء، وتغيَّرت المشاهد، لكني لم أنسَ. لم تغب تلك الطرقات عن ذاكرتي، فقلبي ظلَّ يقودني فيها، شارعاً شارعاً، وزاويةً زاوية. هناك حيث الذكريات لا تموت.

شعب بيروت طيِّب كأن لا شيء يكدره. في لحظة انقطاع الكهرباء – وهي لحظة متكررة يعرفها اللبنانيون جيداً – لا تشعر بالضيق بقدر ما تشعر بالعجب: المدينة لا تنطفئ، لأن قلوب أهلها مشتعلة بالحُب والحياة. صادفت وجوهاً لا تعرفني، لكنها بادلتني ابتسامات كأنها صداقة قديمة. فتضيء بيروت بشعبها الراقي، وتشعر فيه بالأمان والدفء حتى في عتمة الليل.

الطبيعة الخضراء ساحرة، وضحكات أهلها التي سمعتها في هذه الرحلة لا تزال ترنُّ في أذني، تحمل في طياتها صدقاً نادراً. بيروت، بهذا المزيج العجيب من الجمال والدفء والتحدي، هي درسٌ في الحياة.

لا يسعني إلا أن أشكر أصدقائي الذين أكرموني بمودتهم وحفاوتهم، وخصّوني بأوقات ثمينة صنعت فرح هذه الرحلة. وفي طيات زيارة أصدقاء والدي، أصحاب المكتبات في بيروت وحمانا، شعرت بمجدٍ قديم يُروى من جديد. استعدت من خلال كلماته الطيبة عن والدي ووالدتي حكاياتٍ كانت في القلب، فعادت لتزهر من جديد.

في بيروت، لا تنتهي الرحلة، بل تبدأ منها ألف رحلة أخرى.

رحلة في الذاكرة، وفي المحبة، وفي الإيمان بأن الجمال، مهما تأخر، يعود أقوى.

back to top