المفارقة وسيلة مقاومة... إعادة امتلاك المشاعر والمعنى
على مدى عقود، سعى الأدب المقارن إلى بناء أدب عالمي بعيد عن الهيمنة الفكرية الغربية، ولذلك، تلجأ بعض الأدبيات العربية إلى استخدام صياغات غير قابلة للترجمة، كنوع من المقاومة لتلك الهيمنة.
وتتميز الاستراتيجيات الكتابية في هذا الأدب، بنبرة عاطفية فريدة، وهي نبرة يستخدمها الغرب لوصف الأدب العربي بأنه غير عقلاني.
في هذا المقال، سأناقش المفارقة كما تظهر ببعض نماذج الشعر العربي، مع الإشارة إلى أن السخرية، عند ورودها، هي أحد أساليبها.
نشر أستاذ الأدب بجامعة مينيسوتا، د. تيموثي برينان، مقالة بعنوان «الحجة ضد المفارقة»، وفيها يناقش التناقض بين المفارقة والجدلية، فالمفارقة سمة بارزة في الأدب الغربي، وهي الاستراتيجية التي ساهمت في انتشاره بالقرن العشرين.
برينان، معتمداً على هيغل، يشرح أن الكاتب الساخر في الغرب يتعامل مع الأخلاق كأنها فارغة من المعنى، ظانا أن ذلك يعطيه نوعاً من التفوق.
تُعد قصيدة «الأرض الخراب» للشاعر ت. س. إليوت من أبرز أمثلة الأدب الساخر، إذ تلتزم بخصائص المفارقة، مثل التفلت وغياب المعنى الكلي، ولأن الكتابة العربية عاطفية وترتبط بأدب الجدلية، فهي لا تعتبر متطورة، لأنها لا تلتزم بقواعد المفارقة.
يشير برينان إلى أن من بين الثغرات الكبرى في مشروع «الأدب العالمي» محاولة قراءة الأدب غير الغربي بمقاييس غربية، لكنه أوضح أيضاً أن المفارقة الغربية تستمد قوتها من المعاناة الموجودة في الأدب العربي، وغيره من الأدب المهمش، وهو ما يعد برأيه تجلّيا واضحاً للغرور الثقافي.
منذ قراءاتي، بدأت أفكر في قواعد المفارقة بالأدب العربي، وكيف سيبدو إذا كتبنا مفارقة لا تشبه نموذجهم.. وخلال بحثي، وجدت شبه إجابة لهذه الأسئلة في أدب المقاومة بفلسطين المحتلة، عند الكاتب الذي يعتبر مؤسس هذا الأدب، غسان كنفاني.
يكرر كنفاني عبارة «الشخصية العربية» في معظم وصفاته للحياة الفلسطينية بالأرض المحتلة، وكان يستخدم هذه العبارة ليفرق بين الشخصيات التي تؤيد الفلسطينيين، وتلك الممثلة للمشروع الصهيوني... لكن في أمثلته الشعرية، تكون المفارقة مزروعة في قلب الشخصية العربية نفسها. وسأوضح مسألتي حول «الشخصية العربية» من خلال قصيدة حبيب قهوجي، الذي ألقى شعره أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. والقصيدة نفسها تجسيد للحب، لكنها ليست حبا مسلّما، بل حب غاضب، مقاتل.
الشاعر يجسد «الشخصية العربية»، ويستخدمها للتعبير عن مشاعره، لتؤدي دوراً عاطفياً محورياً.
الشعر الغربي، المعروف بالتفتت ورفضه للمعنى الشامل، يختلف تماماً عن العربي الذي يؤمن بالعاطفة والإحساس، لكن هذا النموذج لم يُجب عن مسألة اعتبار الأدب العربي غير عقلاني. فهل يوجد شعر عربي يتبع نموذج المفارقة الغربية؟
في إحدى قصائد كنفاني، شعر من نايف صالح سليم، تتّبع النموذج الغربي للمفارقة. الشاعر يتحدث عن مجلس بلدي في قريته، الذي - خلال 17 عاما - لم يقدم أي مساعدة بسبب القيود الإسرائيلية على الفلسطينيين.
وكما ذكرت سابقاً، يحمل هذا الشعر بعض صفات المفارقة الغربية، وأولاها التفتت، كما في قول الشاعر: «وقد رأيت البعض من جلساته العصرية... والكل فيها صامت».
ثانياً، غياب المعنى الكلي، وهي تظهر في أول سطر من القصيدة:
ومجلس في قريتي يمشي بحسن النية
مُسلّم أموره لخالق البرية
نية المجلس تبدو صافية في نظر الشاعر، لكن النية وحدها، من دون عمل فعلي، لا تورّث شيئاً، ولذلك، حين يتبعها الشاعر ببيت يصف سلوكهم الفعلي: «ويصرخون دائماً في الجلسة السرية»، يبرز الفراغ بين ما يقال وما يُطبّق.
الشعر يتبع بعض الخصائص الغربية، لكن هناك أشعاراً عربية أخرى تتبع هذا النموذج أيضاً، فما الذي يميّز شعره عنها؟
من أهم الصفات التي تميّز الشعر الغربي المسافة والبرود العاطفي، ففي تلك المسافة، كما يوضح برينان، يمتلك الساخر قوة ناتجة عن ابتعاده. والشاعر نايف صالح سليم يُطبق نفس فكرة المسافة والبرود، وهي صفة نادراً ما تظهر في النماذج العربية.
من المقاطع التي تجسد هذه المسافة العاطفية:
«وإن هم تحدثوا ففي حديث ميت... تلفظه أفواههم لفظاً بلا روية... يلقونه كأنهم يلقون بالتحية».
الشاعر، من شدة التكرار والفراغ خلال 17 عاما، بدأ يكتب من مسافة عاطفية فُرضت عليه، لكنها ليست انسحابا، بل مقاومة.
كما قال كنفاني: «التصدي، حين يتجاوز حدود الشجاعة، لا يجد ما يلجأ إليه غير السخرية».
المفارقة الغربية تتفاخر بعدم وجود المعنى، أما نحن، فنسخر لأن المعنى هو الشيء الوحيد الذي تبقّى لنا. وهنا تكتشف: المفارقة العربية ليست ضعفا، بل قوة نعيد بها امتلاك مشاعرنا، ونعلن بها رفضنا.
* طالب دراسات عليا في جامعة ييل (Yale) مختص في أدب المقاومة