تقرير اقتصادي: خفض الرواتب المفاجئ... خطيئة تصيب الاقتصاد ولا تعالج الخطأ!

• وصول تكاليفها إلى 15 مليار دينار من الميزانية العامة لا يُصحَّح بحلول جزئية
• الأولوية توفير فرص للعمالة الوطنية في القطاع الخاص بالاستفادة من أملاك الدولة ومشاريعها
• حالة عدم اليقين في السوق المحلي ضغطت على الاستهلاك وأضرّت بأصحاب الأعمال

نشر في 26-06-2025
آخر تحديث 25-06-2025 | 18:29
محمد البغلي
محمد البغلي

لم يكن التعميم الذي أصدره محافظ بنك الكويت المركزي، باسل الهارون، الأسبوع الحالي بشأن دراسة تقييم أوضاع العملاء الذين تغيّرت أوضاعهم المالية بسبب انخفاض رواتبهم الشهرية، وبالتالي جدولة القروض ورفع نسبة الاستقطاع من 40 إلى 50 من الراتب، بالتوازي مع مدّ أجل السداد، حلاً لفئة قد لا تكون كبيرة من المقترضين، بقدر ما يشير إلى بداية تبلور مشاكل مصرفية وقانونية، وصولاً إلى أزمات اقتصادية ومالية مباشرة أو غير مباشرة، إذا لم يتم التنبه إلى خطورة تغيير المراكز المالية والقانونية والوظيفية لموظفي القطاع العام، فضلاً عن مخاطر اللجوء إلى حلول قصيرة الأمد وإهمال المعالجات المستدامة الضرورية.

تعميم «المركزي» عن تغيّر الرواتب يشير إلى مشكلات مصرفية وتخوُّف من أزمات اقتصادية

فتعميم البنك المركزي يفترض أنه يعالج أوضاع ربما مئات أو بضعة آلاف من موظفي الأمانة العامة لمجلسي الأمة والوزراء، وعدد من الدواوين السيادية، إلى جانب بعض الجهات الحكومية الأخرى، وشريحة من المتقاعدين، بالتالي لن يمثّل مشكلة كبيرة أو أزمة، إلا إذا عممت فكرة تغيير المراكز المالية والقانونية والوظيفية، بحيث تتحول إلى سياسة حكومية تمسّ العشرات من الجهات العامة والآلاف من موظفي الدولة.

ومع تأكيد أن أغلب الكوادر والبدلات المالية التي أقرت في الكويت خلال فترة فوائض النفط المليارية لسنوات متواصلة، خصوصاً في السنوات من 2005 إلى 2011، كانت شعبوية وغير منطقية ولا مبررة ولا مرتبطة بقياس معايير الإنتاج والتضخم والاستدامة المالية، لكن اعتبار القرارات الخاصة بالخفض المفاجئ للرواتب كإصلاحات مالية تهدف لتقليص العجز هو خطيئة كبيرة أكبر من خطأ الاستمرار في صرف كوادر وبدلات لم تكن بالأصل ضرورية، وبكل الأحوال لا يمثل معالجة جذرية لفترة انفلات الكوادر غير المدروسة.

خفض الرواتب يلغي مراكز قانونية ومالية مستقرة ويمسّ اعتبارات النظام المصرفي ويؤثر سلباً على الإنفاق الاستهلاكي واحتمالات نمو سوق العمل الحر في البلاد

فهم الإصلاح

فخطيئة الخفض المفاجئ للرواتب لموظفي الدولة لا تنحصر فقط في خطورة تغيّر المركز المالي والقانوني والوظيفي لعدد قليل أو كبير من الموظفين مع صعوبة ترتيب الأوضاع لمجموعة من المقترضين تراجع دخلهم الشهري بما يناهز 50 في المئة من الدخل السابق، ولا في المساس باعتبارات النظام المصرفي من حيث مدد السداد ونسب الاستقطاع قواعد التمويل، ولا فقط في مجرد ضرورة أن يواكب الخفض المالي سياسات ناجعة على صعيد الحد من التضخم، إنما أيضاً على طبيعة فهم فلسفة إصلاح سوق العمل الذي لا يستوجب خفض النفقات إلا في حدود ضبط المصروفات قصيرة الأمد، لأن الإصلاح الحقيقي يتمثل في قدرة الإدارة العامة على توفير الوظائف في القطاع الخاص، وكيفية تحويل أملاك وأراضي الدولة إلى بيئة حاضنة لاستثمارات الشباب الكويتيين وفرص عملهم.

وفي الحقيقة، فإن مسألة إصلاح سوق العمل وخفض تكاليف العمالة الوطنية على ميزانية الدولة ليست مسألة مستجدة، إنما هي جزء من نقاش قديم منذ عقود لاختلالات الاقتصاد الكويتي، وقد تبلور من هذه النقاشات ما يُعرف بالبديل الاستراتيجي للرواتب منذ نحو 11 عاماً، الذي ارتكز فيما تسرّب منه على معالجات مالية محضة، كالعادة، تركّز على خفض الإنفاق المالي لا التحفيز الاقتصادي، الذي يستوجب إجراء إصلاحات عميقة لسوق العمل من خلال تحويل البيئة الاستثمارية وأملاك الدولة لجذب عشرات الآلاف من الوظائف تدريجياً بما يخدم الاختلال المباشر، وهو سوق العمل، فضلاً عن اختلالات أخرى بشكل غير مباشر كخفض النفقات العامة ومعالجة التركيبة السكانية وزيادة حجم وتنويع مكونات الناتج المحلي الإجمالي.

بيانات واستهلاك

وبالنظر إلى عدد من البيانات الاقتصادية التي تزامنت مع «شائعات» أو تصريحات ملتبسة أو قرارات فعلية منذ الربع الأخير من العام الماضي إلى الربع الأول من العام الحالي، نجد أن السمة الرئيسية في بيئة الأعمال الكويتية هي تباطؤ نشاط «الاستهلاك» في البلاد نتيجة حالة عدم اليقين بالسوق المحلي، فحسب بيانات بنك الكويت المركزي نجد تباطؤاً في نمو الإنفاق الاستهلاكي «بمجمله مدعوماً بتراجع الإنفاق من البطاقات المصرفية» بالكويت في الربع الرابع من عام 2024، إذ بلغ 0.8 في المئة فقط، أما في الربع الأول من عام 2025، فسجل أداءً سلبياً بنسبة 5.9- بالمئة، لكن في الربع الثالث من عام 2024، أي قبل تزايد الحديث والشائعات والمخاوف بشأن كان نمو الانفاق الاستهلاكي إيجابياً عند 4.6 في المئة، ويشكّل الإنفاق بالبطاقات البلاستيكية أكثر من 50 في المئة من إجمالي الإنفاق الاستهلاكي في البلاد، مما يجعله مؤشراً معتبراً في القياس ومعرفة اتجاهات السوق.

في حين تمثّل معاملات المواقع الإلكترونية 18 بالمئة، وأجهزة السحب الآلي 10.8 بالمئة، وأجهزة نقاط البيع 20 بالمئة، ويبلغ إجمالي التعامل في البطاقات المصرفية في الكويت بالربع الأول من العام الحالي 22.5 مليار دينار، بتراجع 5.5 في المئة عن الفترة المماثلة من العام الماضي.

«الخفض» حل جزئي يوفر في أفضل الأحوال عشرات الملايين من الدنانير على حساب مشروع إصلاحي مستدام يرفد الدولة بالمليارات

ترقّب السوق

كذلك تشير البيانات إلى أن الائتمان الاستهلاكي سجل نمواً ضعيفاً بنسبة 0.4 في المئة في الربع الأول من العام الحالي، وفي المجمل هذه مؤشرات على حالة ترقب في السوق المحلي، تنعكس على اتجاهات الإنفاق لدى المستهلكين ليس مثلاً لوجود بدائل استثمارية مثل الاكتتابات العامة أو نشاط بيئة الأعمال، إنما نتيجة ضبابية قد تؤثر سلباً على قطاعات التجزئة والخدمات والأغذية، تحديداً الباب الخامس، ومعظمهم من أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة الذين يفترض بالدولة - حسب خطابها الرسمي - تشجيع الشباب الكويتيين على ترك الوظيفة الحكومية والتوجه إلى العمل الحرّ، غير أن واقع حال أصحاب الأعمال يشير إلى تراجع الإنفاق الاستهلاكي في البلاد قد أثّر بشكل لافت على عملياتهم مقارنة بالسنوات الماضية.

لا يمكن التعامل مع خطأ كوادر «الفوائض» النفطية بخطيئة أكثر وآثار اقتصادية أسوأ

لذلك، من المهم فهم أن معالجة مصروفات بقيمة 15 مليار دينار لبند المرتبات وما في حكمها بما يعادل 61 بالمئة من إجمالي مصروفات الميزانية، لا يمكن أن يكون بخفض للرواتب أو إلغاء المزايا المالية، خصوصاً مع توسُّع مؤسسات الدولة في توظيف القادمين الجدد إلى سوق العمل يشكلون عبئاً إضافياً على الميزانية، بل في وضع برنامج واضح ومحدد لاستيعاب ما يصل إلى 250 ألف كويتي قادم إلى سوق العمل خلال 5 أو 6 سنوات مقبلة في القطاع الخاص، من خلال رفع وجعل أملاك الدولة الصناعية الخدمية والغذائية ومشاريعها بيئة استثمارية غير محتكرة تستقطب أصحاب المبادرات الشباب والشركات الأجنبية وتحفز القطاع الخاص الإنتاجي، والهدف هنا هو رفع نسبة العمالة الوطنية في القطاع الخاص كإصلاح اقتصادي مستدام.

عشرات ومليارات

أما اعتبار خفض الرواتب مسألة إصلاحية، فهو اعتقاد غير سليم، لكونه يلغي مراكز قانونية ومالية مستقرة ويمسّ الاعتبارات التي استقر عليها النظام المصرفي، ويؤثر سلباً على الإنفاق الاستهلاكي، بالتالي احتمالات نمو سوق العمل الحر في البلاد، علاوة على كونه يوهم صاحب القرار بحل جزئي يوفر على الدولة في أفضل الأحوال عشرات الملايين من الدنانير على حساب مشروع إصلاحي مستدام يرفد الدولة بمليارات بشكل مباشر أو غير مباشر عبر الوظائف والاستثمارات والخدمات، فهو يتعامل مع خطأ الكوادر بخطيئة أكثر وآثار اقتصادية أسوأ.

back to top