فيلكا الهلّينستية... قراءة في وضعها ودستورها
تشهد آثار جزيرة فيلكا ونقوشها على فصل مشرق من تاريخ الخليج العربي، حين تشكل مجتمع فريد من السكان الآراميين الأصليين والمستوطنين اليونان، الذين أقاموا معاً حصناً شامخاً تحول إلى نواة لمستوطنة مزدهرة، فقد حدث ذلك خلال القرن الثاني قبل الميلاد بعد أن سعت الإمبراطورية السلوقية (312 - 64 ق.م) للسيطرة على طرق التجارة البحرية.
حول هذه القلعة، انتشرت المزارع الخصبة، وازدهرت حرف الصيد والغوص على اللؤلؤ، ونشطت حركة التجارة البحرية التي ربطت فيلكا بعالم البحر الأبيض المتوسط وشرق آسيا، وقد نظمت حياة هذا المجتمع قوانين متطورة كفلت الأمن والحريات، في نموذج مبكر للحكم الرشيد.
حجر إيكاروس: طوله 135 سم وعرضه 17 سم... معروض في متحف الكويت الوطني
يعود هذا العصر، الذي عرف بالهلينستي أو «المتأغرق»، إلى إرث الإسكندر الأكبر (336 - 323 ق.م) الذي نشر الحضارة اليونانية في الشرق. وفي فيلكا بالذات، تمازجت الثقافة اليونانية الوافدة مع التراث السامي الآرامي المحلي لتخلق مزيجاً حضارياً فريداً يمكن اعتباره النموذج الأول للعولمة الثقافية في المنطقة، حيث تفاعلت العناصر الحضارية المختلفة في تناغم وإبداع.
حصن فيلكا: متحف مفتوح تحت السماء
يتربّع الحصن الهلّينستي في الجنوب الغربي من الجزيرة، شامخا بأسواره الأربعة التي تحيط بمساحة تبلغ 3600 متر مربع، طول ضلعها الواحد 60 مترا. يحرس الحصن أربعة أسوار في زواياها، واثنان في منتصف كل سور. وتتوسّط الحصن بئر ومعبدان ذوا أعمدة متوجة بالرموز الأيونية، ويحتضنهما مذبحان للقرابين، وتملأ البيوتُ بقيةَ المساحة وتتخللها ممرات. أما البوابتان الشمالية والجنوبية فكانتا مدخلين لعالمٍ من الازدهار، تُجسّده التماثيل اليونانية للآلهة والملوك والشخصيات الهامة، إضافة إلى العملات النقدية المنقوشة من فئتي الدراخما والتترادراخما، علاوة على العملات النحاسية على الطراز اليوناني.
ونُقب أيضا عن العديد من الأدوات الفخارية: كقدور الطبخ وجرار التخزين وأواني الشرب وجرار السوائل، والحلي المصنوعة من النحاس والأحجار الكريمة والفضة، والكثير من الأدوات المنزلية المصنوعة من النحاس، ويضاف إليها بعض الأدوات المتعلقة بصيد الأسماك: كأثقال الشباك الحجرية، وحجارة تثبيت السفن، وأحجار الغاصة على اللؤلؤ، وصنانير صيد الأسماك المصنوعة من الحديد. وكثير منها معروض أو محفوظ في متحف الكويت الوطني، ومتحف موسغرد الدنمركي، وقد عرض صورها الباحث المختص بآثار الكويت د. حامد المطيري في كتابه «جزيرة فيلكا في أرشيف متحف موسغرد... أرشيف البعثة الدنماركية 1958م»، لكن هذه اللقى الأثرية تبقى شواهد صامتة أمام دليلٍ أكثر بلاغةً.
المصدر: كتاب تقرير شامل عن الحفريات الأثرية في جزيرة فيلكا الصادر عن وزارة الإرشاد والأنباء (وزارة الإعلام حالياً) - إدارة الآثار والمتاحف
حجر إيكاروس: رسالة الخليج الأولى... دستورٌ منقوش
إن نقش «حجر إيكاروس» المكتشف أمام معبد سوتيرا بجزيرة فيلكا عام 1959م بواسطة البعثة الدنماركية بمنزلة صوت حجريّ يُسمعنا همسات الماضي، فهو يُطلعنا على كثير من المعلومات عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية وقوانينها في جزيرتنا الكويتية. لقد تُرجم نص الحجر اليوناني ترجمة أولية عن طريق الأستاذ كريستيان يبيسين عضو البعثة الأثرية الدنماركية عام 1960م إلى الإنكليزية. ولا يزال النص اليوناني ذو الخمسة والأربعين سطرا بحاجة إلى مراجعة جديدة لترجماته السابقة، وبانتظار الأوروبيين بالطبع ليقوموا بذلك بدلا منا!
إن ما هو مهم حقاً هو محاولة استكشاف شخصية الإنسان والحاكم الذي عاش على هذه الجزيرة متأثرا بموقعه الجغرافي، وبما اعتراه من تحديات وفرص استراتيجية تتعلق بالتجارة الدولية ومجاورة الإمبراطوريات، حيث إن ما جاء في حجر إيكاروس يشكل دليلا واقعيا لكيفية التصرف والتأقلم لحفظ الأمن والرخاء، ويعطينا النقش أيضا سوابق تاريخية حول تنفيذ سياسات اقتصادية استراتيجية، ويكشف عن سلوكيات وإجراءات لا تزال متكررة إلى يومنا هذا.
يخبرنا حجر إيكاروس بلغة يونانية عتيقة أن الملك سلوقس كان قلقاً أو مهتماً بجزيرة فيلكا، وهذا يعكس أهميتها الاستراتيجية للإمبراطورية السلوقية، ويكشف أيضا أن لفيلكا جهازا إداريا وبيروقراطية، مبينا أن موظفي فيلكا كانوا متقاعسين عن تنفيذ أوامر عليا ببناء معبد سوتيرا ونقل تمثال أفروديت إليه، وأنهم انصاعوا أخيرا لتنفيذ الأوامر حين خاطبهم الملك سلوقس بنفسه، ويطلعنا كذلك على حقيقة أن فيلكا قد أقامت مسابقة أولمبياد بين الرياضيين تكريما للآلهة، وهي رياضة ذات غرض ديني، ويبدو أيضا أن فيلكا كانت حرما، وهذا ما يؤكده تقرير المؤرخ أريان حين وصف اقتراب سفينة الإسكندر من جزيرة فيلكا، وذكر أن بها معبدا لأرتميس، حيث يُحرّم في فيلكا قتل الغزلان والماعز إلا للأضاحي أو القرابين.
تفريغ النص اليوناني من حجر إيكاروس
ويوضّح نقش حجر إيكاروس أن أهالي فيلكا تمتعوا بكثير من الامتيازات الاقتصادية، مثل توفير البيوت الحكومية التي كانت على شكل مسكن عمومي، مع إلزامهم بعدم التعدي على بيوت المزارع المملوكة لآخرين بأي وسيلة من الوسائل. ويلزم قانون جزيرة فيلكا/ إيكاروس «على كل شخص أن يحترم مصالح الجماعة لأجل أن يحصل الناس على الأمن وكل الحقوق، فلا يُظلم الفقراء المُعدَمُون».
ومن المدهش أن نعرف عن أحد القوانين وهو: «في حال رغب بعضهم الاستفادة من الأرض التي لا يملكها أحد فيمكنه زراعتها بكده وتعبه وإنشاء بستانه الخاص، ويضمنون لأولادهم حق الوراثة الشرعية». وهذا المبدأ موجود أيضا في الشريعة الإسلامية، ويسمى إحياء الموات.
ومما هو محل إعجاب وتشابه بين الماضي والحاضر هو إعفاء أهالي فيلكا من الضرائب، إضافة إلى ذلك جعل الملك سلوقس فيلكا ميناء تجاريا حرا، أي أن التجار القادمين إليها من الخارج معفون من الضرائب على وارداتهم وصادراتهم، ويكشف الحجر مفاجأة تاريخية لافتة: حظر تصدير قمح فيلكا المزروع محليا، وذلك تحقيقا للأمن الغذائي في الجزيرة.
ويشدد قانون فيلكا على منع كل أنواع العنف والاحتيال والسرقة. وقد أُمِرَ أهل فيلكا بنقش هذه القوانين التي كانت على شكل رسالة مرسلة من أكاديون، وهو ربما أحد المرازبة في البحر الأرثري (الخليج العربي) إلى أناكسارخوس حاكم فيلكا أو المسؤول عنها في عام 73 تقريبا، حسب التقويم السلوقي.
إن أهمية هذه الرسالة تكمن في كونها أطول رسالة تكتشف في منطقة الخليج العربي إبان الفترة السلوقية، كما أن كمية المعلومات التي وردت فيها لا توجد في أي نقش آخر كشف عنه حتى الآن، وهي بحق كنز في غاية الأهمية، تم الاستدلال منه على أن جزيرة فيلكا هي الجزيرة المسماة إيكاروس في المصادر الكلاسيكية اليونانية.
ويمكننا أيضا أن نعد حجر إيكاروس أول وثيقة قانونية مدونة معروفة على أرض الكويت والخليج العربي. لقد أكد حجر إيكاروس شخصية أرض الكويت عبر الزمن، أرض التجارة الحرة، والدبلوماسية المرنة، ملتقى الحضارات المُحبّة للسلام والفن والرياضة والدين والقانون، حيث تسود فيها العلاقة الطيبة بين الحاكم والمحكوم.
* قسم التاريخ والآثار بجامعة الكويت