الجمعة في اليمن بين الرمزية الدينية والاستعراضات السياسية
يوم الجمعة في البلاد الإسلامية هو يوم عيد، أو يوم للراحة الأسبوعية، وعطلة لزيارة الأهل والأقارب، صلاته كفريضة جماعية تحمل رمزيةً للوحدة الدينية والاجتماعية بين الشعوب تبنيها وتُمتن مداميكها خطبة إرشادية تُعد زاداً دينياً يُلقى من فوق منبر ديني وأخلاقي.
لكن هذا اليوم تغيَّر وتحوَّل في اليمن منذ حوالي عقدٍ ونصف العقد من الزمن من واقعية الرمزية الدينية إلى سردية الاستعراض السياسـي، كان أوله مع مشـروع الربيع العربي، الذي كان اليمن أحد ضحاياه – وأقولها بالفم المليان كذلك – لكوننا لم نرَ بعده إلا الخراب والدمار والقتل والدماء، ليس في اليمن وحسب، بل في العديد من الدول التي دخلها، ومن ثم أحداث دخول الحوثيين للعاصمة صنعاء، وانتهاءً بالمسيرات الأسبوعية في كل يوم جمعةٍ بميدان السبعين – أحد أكبر ميادين العاصمة – تارةً صموداً في مواجهة أطراف الحرب الأهلية الداخليين والخارجيين، وتارةً نصـرةً لقطاع غزَّة الفلسطيني الذي يتعرَّض لعدوان إسـرائيلي مجرم، وتارةً ثالثة للصمود أمام العدوان الصهيوني والأميركي على اليمن نفسه، الأمر الذي عكس تحوُّلات اجتماعية وسياسية متشابكة يعيشها اليمنيون، محورها وارتكازها يقوم على يوم الجمعة، الذي أصبح تتداخل فيه العبادات الدينية مع الممارسات السياسية بشكلٍ كبير وفاضح.
ولعل هذا الأمر يتأتى كأحد مخرجات مشـروع «الفوضـى الخلاَّقة» الغريب. وبالتالي، فظاهرة التحوُّل السياسـي ليوم الجمعة غريبة مثله، وكلنا نعرف أن الميادين العامة كانت ساحات للصـراع السياسـي والتنابز الأخلاقي، والتهديد والوعيد، واستخدام العبارات العنيفة في الخطابات السياسية، مما حدا بالباحثين في علم اللسانيات (صلاح الهيجي، وعبدالرحمن الفهد) للقيام بدراسة عنوانها «توظيف المفردات المعجمية العنيفة في الخطاب السياسـي اليمني». ركَّزت هذه الدراسة على الأحداث السياسية التي عاشها اليمن– حينذاك، أي في عام 2011، وأنا هنا لست بواقع التقصي حول تلك المفردات، بل لتوضيح دور يوم الجمعة في تلك الأحداث، حيث كان كل طرفٍ يُزايد على الطرف الآخر، بحجم حشوده، ومدى قوة شعبيته في كل يوم جمعة، والتي أصبحت هي الأخرى ذات مسميات وعناوين برَّاقة، كجمعة الكرامة، وجمعة الرحيل، وجمعة السيادة، وجمعة المحاكمة... إلخ. بل ويُقارن كل طرفٍ حجمه بحجم ذلك الميدان، وبكم حشد في يوم الجمعة، وما كانت تُمثله خُطبته، والتي تحوَّلت هي الأخرى من كونها مادة دينية صـرفة إلى ذات محتوى سياسـي وتهديدي وتدميري للشجر والبشـر والحجر في هذا الوطن المكلوم، فأصبحت أداة للشحن والتعبئة العامة، والقتال، والتخوين، وغيرها. وعلى سبيل المثال، هناك مَنْ حلف أيماناً مُغلَّظةً بأنه شاهد الصحابي خالد بن الوليد وهو يتقدَّم صفوف المتظاهرين، فيما أورد خطيب ثانٍ بأن النبي –صلى الله عليه وسلم– كان حاضراً بين الجموع– حاشاه الله، ليذهب آخر إلى إعلان أن الخلافة الإسلامية أصبحت قاب قوسين أو أدنى!
ومما زاد الطين بلَّة، عند دخول الحوثيين العاصمة عام 2014، زاد استخدام يوم الجمعة وخطبته أيضاً في هذا السياق السياسـي الممجوج، وجعل منه يوماً للاستعراض السياسي أكثر منه يوماً للمحبة الأخوية، ولتوحيد الصف، ونبذ الخلافات، فكان ميدان السبعين، وغيره من الميادين الكبيرة بمدن اليمن، لتبرير المواقف العسكرية، ولتعبئة الرأي العام، ولبعث الرسائل السياسية هنا وهناك.
وللأسف الشديد، هذا الأمر لم ينحصر على الحوثيين فقط، بل شمل أيضاً الأحزاب والفرق المناوئة لهم في مختلف المناطق الخاضعة لسيطرتهم، والتي تستخدم الخطابات الدينية كأداة لتبرير المواقف، ووصف المعارك مع الحوثيين باعتبارها «دفاعاً عن الإسلام»، ليلخصه اليمنيون بكونه «داء الجمعة»، أو «جنون يوم الجمعة».
وفي الأخير، فإن يوم الجمعة في اليمن لم يعد يوماً للصلاة والراحة أو مجرَّد عطلة دينية، بل تحوَّل إلى ساحة لصراعات الهوية والسيادة، ومرآة تعكس التوترات بين الهوية الإسلامية التقليدية والصراعات السياسية المعاصرة، في حين تبقى صلاة الجمعة وخطبتها رمزاً للوحدة الروحية، فتوظيفها في الخطابات السياسية والعسكرية يُعمِّق الانقسامات، ويُهدد السِّلم الاجتماعي، وليصبح مستقبل اليمن مُعتمداً على قدرته على فصل الرموز الدينية عن الاستغلال السياسي، وهو تحدٍّ مُعقَّد في ظل حرب أهلية مستمرة منذ سنوات، ربما نراه قريباً، وقد لا!
* صحافـي يمني