الإفراج عن الوثيقة السرية
كتبتُ في مقالي السابق «إصلاح التعليم» عن الفكرة العامة للأهداف التربوية والتعليمية، وعن أهمية التركيز على تعلّم اللغة العربية، خصوصا في السنوات الأولى، فتذكرت كلاما وجيها يستحق أن يفرد بمقال خاص للدكتورة سهير السكري، العالمة في اللغويات وفي تنمية القدرات الذهنية للأطفال.
وقد لخّصت فيه ما جاء ذكره في كتاب نادر بعنوان «Militant Islam»، الذي يتحدث عن اجتماع خمس امبراطوريات غربية في القرن التاسع عشر، لوضع سياسة مدروسة للقضاء على اللغة العربيّة. وكتب الإنكليز تقريرا سرياً قبل التآمر على تفكيك الدولة الإسلامية العثمانية والاستيلاء عليها، وهذا التقرير الوحيد الذي لم تنفك سرّيته إلا بعد مرور 75 سنة، في حين أن بقية التقارير السرية يُفرج عنها بعد 25 أو 50 سنة بحد أقصى.
وذُكر في التقرير أنهم درسوا سبب قوة الشخص العربي في مطلع القرن السابق، وكيف استطاع غزو العالم بهذه الشخصية القوية. فاكتشفوا أن سبب هذه القوة ترجع إلى تعليم أبنائهم وتأسيسهم في «الكتاتيب» من سن 3 سنوات فما فوق.
والسؤال، ما علاقة اللغة بكل هذا؟!
أولا، اللغة هي الرابط الوثيق لتوحيد العالم الإسلامي بعد الدين. ولأن الجهل باللغة أكبر قاتل لطرق التفكير كلها. حتى أن الذكاء لا ينفع صاحبه من دون حصيلة لغوية. ولذلك يرى الفيلسوف هيغل أن التفكير بدون «كلمات» محاولة عديمة المعنى، لأن الكلمة تمنح الفكرة وجودها الأسمى والأصح. فالمتمكن من اللغة يستطيع أن يصل إلى أفكار دقيقة ومنظمة، ويستطيع أن يشخّص المسائل بدقة.
إن اللغة كالبنيان، وإن الثراء اللغوي بمنزلة الآلات والأجهزة المتطورة والخامات المتنوعة التي تمكّن صاحبها من بناء قصور شاهقة عملاقة، وأما الفقر اللغوي فهو كالآلات الفقيرة التي لا تقدر إلا أن تبني كوخاً صغيراً مهلهلا.
هل تعلمون أن الطفل العربي كان «أيام الكتاتيب» يخرج بحصيلة 50 ألف كلمة، فقط من تعلّم القرآن، فضلا عن تعلّم أَلفية ابن مالك والأحاديث النبوية؟ وهذه تعتبر ذخيرة لغوية توسّع المدارك وتقوّي الذاكرة وتفتح الآفاق إلى مدى أوسع وأعمق وأدق. فكانوا أطفالا جبابرة، بفصاحتهم وتفكيرهم، واعتزازهم بهويتهم. وهذا هو الأساس الذي نفتقده في مناهجنا الحالية المستوردة من الخارج، خصوصا عندما أدخلنا لغات أخرى في المرحلة الابتدائية لتزاحم اللغة العربية في بدايات تعلّم الطفل.
عزيزي القارئ، هناك عدة دراسات وبحوث حديثة تشير إلى الفجوة الكبيرة في الحصيلة اللغوية بين الطفل العربي الحالي والطفل الغربي «خاصةً الناطق بالإنكليزية»، حيث تُقدَّر حصيلة الطفل العربي بحوالي 3000 كلمة، مقارنةً بحوالي 16000 كلمة للطفل الغربي بحلول سنّ السادسة.
وأشارت دراسة «واقع اللغة العربية لدى الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة» (المجلس العربي للطفولة والتنمية - 2010) إلى أن البيئة اللغوية للأطفال العرب تعاني قلة المحفزات الكلامية مقارنةً بالبيئات الغربية. وذكرت منظمة يونيسيف، في بعض تقاريرها، أن أنظمة التعليم العربية لا تولي اهتمامًا كافيًا لتنمية المهارات اللغوية في مرحلة ما قبل المدرسة.
عزيزي القارئ، لا بُد أن تُعد المناهج من جديد لتكون «العربية» هي محور الأساس، ويجب أن نعيد النظر في تدريسها من مرحلة رياض الأطفال، وألا نضيّع هذه المرحلة الذهبية في التسالي فقط، حتى يكون أساس الطفل صلباً، فيسهل عليه هضم اللغة وممارسة كل أفرعها فيما بعد، من مهارات كتابية، وسلامة لفظية، وبلاغة وصفية، وسلاسة في القراءة، وطلاقة في الكلام.