التعليم بلا فلسفة... مركب بلا بوصلة
أثار مقالي السابق حول «وهْم إصلاح التعليم» جدلاً واسعاً، إذ فَهِم البعض أنني أعارض تغيير المناهج، وهذا غير دقيق. ما قصدته تحديداً هو أن تغيير المناهج يجب ألّا يكون الخطوة الأولى في مسار الإصلاح، بل نتيجة نهائية تَتبع تشخيصاً دقيقاً لأسباب الخلل في النظام التعليمي، وهذا أمر لا يُنجز خلال أسابيع.
إن إصلاح التعليم، بكل مراحله، يبدأ من الجذور، وأهمها: تبنّي فلسفة تعليمية واضحة ترسم الملامح الكبرى لما نريد أن يكون عليه المتعلم، وما ننتظر من مخرجات العملية التعليمية، كما يتطلب الإصلاح إعادة تأهيل المعلم ليؤدي دوره في هذا التحول، لا أن يُطلب منه تنفيذ سياسات غير مفهومة ولا منبثقة من رؤية شاملة.
لماذا نحتاج إلى فلسفة تعليم؟ ولماذا الآن؟
لأننا نعيش لحظة تاريخية غير مسبوقة، تتسارع فيها التحولات التقنية، ويعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل سوق العمل، والعلاقات الاجتماعية، بل حتى مفاهيمنا عن الإنسان والمعرفة. فهل نحن مستعدون لهذا التغيير العميق؟ وهل نمتلك المهارات الذهنية والقيمية التي تمكّننا من مواجهته؟
إذا كنا جادين في إعداد أجيال قادرة على العيش والمساهمة في عالم جديد، فإن أول ما يجب أن نفعله هو إعادة النظر في فلسفة التعليم التي نتبناها، من خلال الإجابة عن أربعة أسئلة مركزية:
1- لماذا نُعَلّم؟ هل نُعَلّم من أجل إعداد موظفين لسوق العمل؟ أم لبناء إنسان حر، ناقد، أخلاقي، وفاعل في مجتمعه؟ هل الغاية من التعليم هي نقل المعرفة فقط؟ أم بناء وعي الإنسان بذاته وعالَمه؟
2- ماذا نُعَلّم؟ هل نركّز على العلوم والرياضيات والتكنولوجيا بوصفها محركات النمو الاقتصادي؟ أم ندمج معها العلوم الإنسانية والفنون التي تنمّي الخيال، والتفكير النقدي، والقدرة على فهم الإنسان؟ هل نعلّم معلومات جامدة أم مهارات حياتية؟ حفظاً وتلقيناً، أم فهماً وتحليلاً؟
3- كيف نُعَلّم؟ هل يبقى المعلم صاحب السلطة المطلقة، ودور الطالب يقتصر على التلقي الصامت؟ أم نمنح الطالب دوراً فاعلاً في البحث، والنقاش، وصناعة المعرفة؟ هل نربّي على الطاعة، أم نُنشّئ على حرية التفكير والمبادرة؟
4- ولمن نُعَلّم؟ مَن هو الطالب في نظرنا؟ هل نراه عقلاً يجب تعبئته بالمعلومات؟ أم إنساناً يجب تنميته في أبعاده الفكرية والنفسية والاجتماعية؟ هل نراعي الفروق الفردية والميول الشخصية؟ أم نفرض قالباً موحداً على الجميع، ننتظر منه نتائج متشابهة.
ليست هذه الأسئلة تنظيراً فكرياً مجرّداً، بل هي جوهر أي مشروع وطني حقيقي لإصلاح التعليم. فكل سياسة تعليمية، من وضع المناهج، إلى تدريب المعلمين، إلى أساليب التقييم وتصميم البيئة المدرسية، يجب أن تُبنى على فلسفة تعليمية واضحة ومعلنة.
من هنا، أوجّه سؤالي إلى معالي وزير التربية، والسادة القائمين على رسم السياسات التعليمية: هل تملكون إجابات صريحة ومتماسكة عن هذه الأسئلة الأربعة؟ إن كانت الإجابة بـ «نعم»، نتمنى أن تُطرح على الرأي العام لخلق حوار عام حولها، وإن كانت الإجابة «لا»، فبأي منطق نشرع في تغيير المناهج أو تقييم أداء المعلمين دون بوصلة فكرية تقود هذا التغيير؟
إن التعليم بلا فلسفة هو كالسفينة بلا وجهة. وإذا أرادت الكويت مستقبلاً مزدهراً، فعليها أن تتبنى مشروعاً وطنياً شجاعاً لإعادة تعريف التعليم، يبدأ بسؤال:
«لماذا نُعَلّم؟» قبل أن يُقرر «ماذا نُعَلّم؟»
فالإصلاح الحقيقي لا يبدأ من الكتاب... بل من الفكرة.