حين تتشاجر القمة: ماسك وترامب بين وهْم القيادة وخلل الفريق

نشر في 16-06-2025
آخر تحديث 15-06-2025 | 19:34
 محمد الجارالله

قد ينظر الكثيرون إلى الصراع العلني بين دونالد ترامب، رئيس أقوى دولة في العالم، وإيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، على أنه تشقق في قمة الهرم الحضاري الأميركي، وأحد بدايات الانهيار الداخلي لنموذج القوة الغربية. لكن نظرة أكثر تعمقاً في ديناميات هذا الخلاف تقودنا إلى تفسير أكثر تركيباً وواقعية، يتعلَّق بجوهر القيادة المُعاصرة، وطبيعة النخب الجديدة، وحدود التحالف بين رأس المال والسُّلطة.

ترامب: عندما يُبنى الفريق على الصفقات

منذ صعوده السياسي في 2015، أدار ترامب مشروعه الرئاسي كنموذج لصفقة مفتوحة مع شرائح غاضبة من الطبقة الوسطى الأميركية. لم يكن ترامب يحمل مشروعاً مؤسسياً بقدر ما كان يعرض نفسه كـ «منقذ فرد» في مواجهة النخب التقليدية. هذه المقاربة ظهرت بوضوح في اختياراته لمساعديه ومستشاريه: رجال أعمال، أفراد من عائلته، إعلاميون، طارئون سياسياً. لم يكن هناك تصوُّر استراتيجي لبناء فريق عمل مستدام يخدم دولة مؤسسات، بل مزيج متقلب من الولاءات والمصالح الآنية.

هذه البنية الهشة لفريق ترامب سرعان ما ظهرت للعلن: استقالات متتالية، تناقض في السياسات، اضطرابات داخل البيت الأبيض، وصراعات بين مراكز القرار. وحين سقط ترامب في اختبار المؤسسات بعد أحداث اقتحام الكونغرس في 2021، تكشفت الحقيقة: لم يكن هناك فريق عمل صلب، بل شبكة من الأفراد يديرون مواقعهم كجزء من صفقة لا أكثر.

ماسك: عندما يُجرب رأسمال لعب السياسة

في المقابل، جاء إيلون ماسك من عالم مختلف تماماً: ريادة الأعمال، التكنولوجيا، الهيمنة الرقمية، والثروة الشخصية الضخمة. حين قرر أن يدخل عالم السياسة عبر استحواذه على منصة «تويتر» (التي أعاد تسميتها لاحقاً بـ X)، فعل ذلك بمنطق رجل الأعمال: التجريب، المخاطرة، والهيمنة من خلال المنصة، وليس البرنامج.

لكن تجربة ماسك السياسية أظهرت سريعاً أنها لا تستند إلى رؤية متماسكة أو فهم عميق للفضاء العام. دفاعه عن «حُرية التعبير» تحوَّل إلى فوضى خطابية، وهجومه على النخب الليبرالية لم يقدِّم بديلاً، بل كشف عن ميل متزايد لاستخدام منصاته لتصفية الحسابات الشخصية. وحين تصاعد خلافه مع ترامب، لم يكن الأمر إلا تعبيراً عن اصطدام مشروعين فرديين؛ أحدهما لم ينجح في أن يكون قائداً مؤسسياً، والآخر فشل في لعب دور سياسي أصلاً.

خلاف النخبة... أم فشل النخبة؟

الصراع بين ترامب وماسك ليس مجرَّد خلاف في المواقف أو صداماً بين شخصيتين، بل يعكس نمطًا أعمق من أزمة تكوين النخبة الأميركية الجديدة. فالنخبة السياسية لم تعد تنشأ داخل مؤسسات الحزب، أو عبر تجربة إدارية طويلة، بل عبر تسويق الذات إعلامياً، أو امتلاك منصة رقمية، أو رأسمال ضخم. وهذا ما يجعل هذه النخبة غير قادرة على الصمود أو إدارة توافق طويل الأمد.

ترامب وماسك يشتركان في خاصية «الفرد المتضخم»: كلاهما يختزل العالم في ذاته، ويتعامل مع المؤسسة بوصفها امتداداً لسُلطته الشخصية. في هذه الحالة، ليس الخلاف سوى نتيجة حتمية عندما يتقاطع مشروعان فرديان بلا رؤية دولة ولا منطق فريق.

التأثير على الداخل الأميركي

في الداخل، تخلق هذه الصراعات إحساساً متزايداً بالارتباك في صفوف المواطنين الأميركيين. فبينما يهاجم ترامب ماسك، ويصفه بـ «المخادع»، يردّ ماسك متهكماً على محاولة ترامب احتكار الخطاب الوطني. وحين يتابع المواطن هذه المعركة عبر تويتر (X)، لا يرى أمامه قيادة موحدة أو برنامجاً وطنياً جامعاً، بل يرى رجلين يتصارعان على منبر دون قواعد، وعلى جمهور دون خريطة طريق.

هذا لا يؤدي فقط إلى تقويض الثقة العامة في النخب، بل يعمِّق شعور الأميركيين بأن النظام لم يعد ينتج قادة، بل شخصيات متصارعة بلا مشروع وطني.

من الداخل إلى الخارج: ترابط الهشاشة

المفارقة أن هذا الصراع في قمة النخبة الأميركية يتزامن مع واحدة من أكثر اللحظات الجيوسياسية حساسية: الحرب المفتوحة بين إسرائيل وإيران، والتي تهدد بإعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط. ورغم ضخامة الحدث، نرى غياباً لافتاً لأي موقف أميركي حازم أو موحد، ليس بسبب غموض المصلحة فحسب، بل لغياب القيادة القادرة على صياغة موقف جامع.

وفي هذا السياق، ينعكس صراع ماسك وترامب كنموذج عن الفوضى في الطليعة الأميركية. فحين تنشغل النخبة بخلافات شخصية وإعلامية، يُصبح من الصعب إنتاج موقف دولي متماسك في قضايا بحجم الشرق الأوسط. والأسوأ، أن هذا الانقسام يُضعف ردع الخصوم، ويشوش على الحلفاء، ما يعكس صورة مقلقة عن مستقبل القيادة الأميركية عالمياً.

قراءة من الخارج: كيف يراها المثقف العربي؟

من موقعنا كمراقبين عرب، نرى في هذا الصراع ما هو أبعد من حدث أميركي داخلي. فهو يكشف هشاشة المعادلة التي طالما اعتُبرت نموذجاً عالمياً في تكوين القيادة وتماسك المؤسسات. كما يفتح باباً للتساؤل عن جدوى الرهان على شخصيات فردية في مواجهة تحديات جماعية. فالأمم لا تُبنى على «الكاريزما» ولا «التغريد»، بل على المشروع والمؤسسة والتوازن.

وهذا الدرس لا يخص أميركا وحدها، بل ينبهنا إلى ضرورة إعادة التفكير في كيفية بناء القيادة، وتحصين القرار الوطني من تقلبات الأفراد مهما بلغت شهرتهم أو ثروتهم.

خاتمة: ما بعد الخلاف

قد لا يكون الخلاف بين ترامب وماسك نهاية النظام الأميركي، لكنه بالتأكيد كشف خللاً في صلبه: غياب الرؤية الجماعية، وتضخم الذوات الفردية. وإذا كانت النخب الأميركية عاجزة عن تشكيل توافق وطني مستدام، فإننا أمام مرحلة انتقال لا تملك وجهتها بعد، لكنها تعاني صراعاً في الطليعة لا يُبشر بنموذج صلب. وبالطبع، فإن نتائج هذا الخلاف قد تتأجل تحت وقع الحرب في الشرق الأوسط، إذ «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، لكن لحظة المواجهة قادمة حتماً، فهذه سمة المرحلة في الولايات المتحدة.

back to top