سورية واللامركزية البغيضة
يزداد السجال حالياً في سورية حول قضية اعتماد اللامركزية كأحد سيناريوهات تسوية الملف الكردي، وغيره من ملفات تمكين الأقليات في سورية الجديدة، على ضوء تنامي الخطاب المناطقي الانفصالي المُعتمِد على التباينات الإثنية والطائفية.
تقوم اللامركزية على فكرة مدى تركيز السُّلطة واتخاذ القرار بين العاصمة وبين المناطق الجغرافية والإدارية المحلية، حيث مازال مفهوم اللامركزية وأبعادها بحاجة إلى ضبط واتفاق، لتبيان الحدود بينها وبين الفدرالية والإدارة المحلية التقليدية، وإلى أي حدٍّ سيتم الاعتماد على ثنائية السُّلطة التشريعية والسُّلطة التنفيذية، ومدى السماح لها بتغذية النزعات الانفصالية في المستقبل وخطر تفكيك الدولة.
ويمكن التمييز بين شكلين من اللامركزية، الأول هو اللامركزية الإدارية، التي تتمثل بصور مختلفة من الإدارة المحلية، والثاني هو اللامركزية السياسية، ذات الإطار الأشمل والأقرب إلى الشكل الفدرالي لأنظمة الحُكم.
وتتمثل اللامركزية الإدارية في توزيع السُّلطات والوظائف الإدارية في مختلف الجهات الحكومية بين الحكومة المركزية والهيئات المحلية في المناطق، مما ينتج عنه تفويض للسُّلطة من الحكومة المركزية نحو الهيئات الإدارية المحلية التي تتمتع بالشخصية الاعتبارية المستقلة إدارياً ومالياً.
وفي الواقع الدولي، فإن دوافع المطالبة باعتماد اللامركزية الإدارية انطلقت عبر التاريخ من الحاجة إلى تحسين الأداء الحكومي الضعيف، ومكافحة الفساد الإداري، وتكريس الديموقراطية وحقوق الإنسان، وفي حالات عديدة جاءت نتيجة سياسات المانحين الدوليين، وأخذت بُعداً إثنياً وطائفياً في عدد من الدول كوسيلة لتبريد وتسوية النزاعات الوطنية المسلحة وغير المسلحة في عدد من الدول النامية.
وعلى الرغم من بساطة مفهوم اللامركزية نظرياً، فإن سياقات التطبيق أظهرت مزيداً من التعقيدات والمشكلات التي تحتاج إلى مراجعات بنيوية حول المفهوم والاختلالات في العلاقة بين المركز والأطراف، وهذا ما ظهر في التجربة العراقية التي مازالت تعاني الفشل، نتيجة اعتبارات سياسية واقتصادية وطائفية وإثنية، إضافة إلى عدم توافر الاستقرار في الممارسة، وطغيان التداخل في الصلاحيات بين المركز والأطراف، وعدم احترام المرجعية الدستورية.
ويمكن إجمال المشاكل التي ظهرت في تجارب تطبيق اللامركزية في عدد من الدول النامية بما يلي:
- تبديد النفقات العامة، باعتبار أن الاستقلال المالي والقانوني للأقاليم وازدواجية الوظائف يعني بالضرورة تحمُّل الخزينة العامة للدولة مزيداً من النفقات وإرهاق الميزانية.
- زيادة مستويات الفساد الإداري، نتيجة المحسوبيات والمحاباة في توزيع المناصب وتقاسم الموارد على الصعيد المحلي، في ظل ضعف أدوات الرقابة الإدارية والمالية المركزية.
- تكريس النزعات الانفصالية بين المناطق ذات الخصوصية الإثنية والطائفية، مما يهدد الوحدة الوطنية.
- التنازع في القوانين والأنظمة بين القوانين الوطنية والمحلية، وضعف أدوات المساءلة والمحاسبة.
- ضعف التنسيق، وتعقد الإجراءات الإدارية والمالية في تنفيذ المشاريع على المستوى الوطني.
- ظهور التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، بسبب عدم المساواة في التنمية بين المناطق داخل الدولة.
- التداخل والتضارب في السياسات بين المركز والأطراف على صعيد التخطيط الوطني اقتصادياً وأمنياً.
إن تجارب تطبيق اللامركزية الإدارية في الدول التي لا تعاني نزاعات وصراعات داخلية، أو وجود استقطابات طائفية أو إثنية يُعد حلاً إدارياً يسعى لتكريس التنمية المستدامة وممارسة الديموقراطية، ومن دون أن يغيِّر في البنى الثقافية والاجتماعية والمؤسساتية داخل تلك الدول.
بينما تثير الدعوات إلى تطبيق اللامركزية حالياً في سورية، بحُكم الواقع، الكثير من المخاوف من استئثار جماعات تقليدية معينة داخل المناطق بالسُّلطة والمناصب الحكومية وتعزيز الشعور الانعزالي لدى الكثيرين في تلك المناطق، وبالتالي إضعاف الشعور الوطني الجامع، مما يشكِّل خطراً جدياً على مستقبل سورية كدولة واحدة لكل أبنائها، خصوصاً أن تلك الدعوات تنقصها الرؤية الشاملة، باعتبار أن اللامركزية ليست وصفة جاهزة يمكن أن توفر حلولاً لتعقيدات ومشاكل العلاقات البينية داخل المجتمع السوري المتعدد الثقافات مع وجود تقاطع وتداخل الحدود الإدارية المحلية، وانتشار الجماعات الإثنية والطائفية عبر الجغرافيا الوطنية.
ويتميَّز الواقع السوري بخصوصية جيوسياسية تتطلب التعاطي مع الدعوات لتطبيق اللامركزية بمزيد من الوعي السياسي والتاريخي والمجتمعي القادر على إدارة قضية التنوع والتعددية الاجتماعية بكل كفاءة وشمولية، ويسير بسورية إلى المستقبل كدولة مركزية موحدة منسجمة مع الواقع الإقليمي والدولي، ومتجاوزة للنتائج المأساوية لفترة الحرب التي شهدتها على مختلف المستويات.
المطلوب عملية تطوير وتغيير في نظام الإدارة المحلية الحالي في سورية يشمل المزيد من تفويض السُّلطات والصلاحيات للوحدات الإدارية المحلية مع وجود خطط تنمية مستدامة شاملة وعادلة لجميع المناطق دون تمييز، وتكريس المشاركة الشعبية على المستوى المحلي في صناعة القرار، من خلال انتخاب هيئات تشريعية وإدارية محلية، وتعزيز دور المنظمات غير الحكومية، وفي إطار وطني لابد من ضمان التمثيل المحلي في المجلس التشريعي، وتوفر حُرية في العمل الحزبي على أسس وطنية جامعة.
ويجب أن يتم ذلك من خلال رؤية وطنية جامعة، وحوار مجتمعي، وتأسيس دستوري وقانوني ورقابي سليم يحافظ على شكل الدولة الموحدة المركزية وهيبتها.
*مستشار قانوني وأستاذ جامعي لندن