وجهة نظر: كويت ما بعد النفط... المشاريع السيادية كنموذج عالمي للقوة الاقتصادية
في العقود الأخيرة، بات الجدل بين الخصخصة وملكية الدولة أكثر إلحاحاً، في ظل تصاعد التحديات العالمية مثل التضخم، وتنامي الفجوة الاجتماعية، وتغيّر المناخ، والتحولات في موازين القوى الدولية.
وعلى الرغم من الترويج للخصخصة على أنها الحل لتحقيق الكفاءة، فإن الأدلة المتزايدة من مختلف أنحاء العالم تُظهر أن المؤسسات المملوكة للدولة والتي تحظى بإدارة رشيدة يمكن أن تحقق قيمة طويلة الأجل تفوق تلك التي تحققها الشركات الخاصة، لا سيما في القطاعات المرتبطة بالأمن القومي، والمرونة الاقتصادية، والتنمية الشاملة.
الميزة الاستراتيجية للمؤسسات العامة
وعلى عكس الشركات الخاصة التي تركز على الأرباح الفصلية والعوائد القصيرة الأجل للمساهمين، تعمل المؤسسات العامة وفق تفويض مزدوج: تحقيق قيمة تجارية من جهة، وتنفيذ أهداف استراتيجية وطنية من جهة أخرى، مثل خلق الوظائف، وتطوير الأقاليم، ودفع عجلة الابتكار، وتعزيز السيادة الاقتصادية.
وفي العديد من الاقتصادات الناجحة حول العالم، أدت هذه المؤسسات دوراً محورياً في تحقيق الازدهار طويل المدى.
تُعدّ الصين المثال الأبرز على نجاح نموذج المؤسسات العامة، إذ تُسهم هذه المؤسسات اليوم بأكثر من 40 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي الصيني، وتوفر فرص عمل مباشرة لأكثر من 70 مليون شخص. وقد مكّنت شركات كبرى مثل «ساينوبك» و«شركة شبكة الكهرباء الوطنية» و«كوسكو للشحن» و«شركة السكك الحديدية الصينية» و«مؤسسة البترول الوطنية الصينية»، بكين من فرض سيطرة كاملة على سلاسل التوريد في مجالات الطاقة والبنية التحتية والصناعة، مع توسيع نفوذها الاقتصادي عالمياً عبر مبادرات مثل «الحزام والطريق». فهذه المؤسسات لا تخدم السوق المحلية فقط، بل تُستخدم أيضاً كأدوات دبلوماسية واقتصادية تفتح الأسواق وتُعزّز النفوذ السيادي طويل الأجل.
أما في سنغافورة، فتجسّد مؤسسات مثل «تيماسيك هولدنغز» و«جي آي سي» نموذجاً فعالاً يجمع بين الملكية الحكومية والحوكمة المؤسسية الرائدة والتكامل مع أسواق المال العالمية. وتضم محفظة «تيماسيك» شركات تنافس عالمياً في قطاعات الشحن (PSA)، والاتصالات (Singtel)، والطيران (Singapore Airlines)، والخدمات المالية، والتكنولوجيا الحيوية. وتسهم هذه الشركات بأكثر من 25 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لسنغافورة، رغم أن الدولة تُعد من أكثر البيئات انفتاحاً وجاذبية للاستثمار في العالم.
وفي النرويج، حولت الدولة ثروتها النفطية من خلال «إكوينور» (ستات أويل سابقاً) وصندوقها السيادي الذي يتجاوز 1.5 تريليون دولار، إلى مصدر أمان مالي وتنمية مستدامة، مع استثمار تدريجي في مصادر الطاقة المتجددة وتعزيز القدرة على مواجهة تغيّر المناخ.
أما الهند، فتقدم نموذجاً هجيناً يجمع بين ملكية الدولة في قطاعات استراتيجية مثل النفط (ONGC)، والتأمين (LIC)، والطاقة (NTPC)، والغاز (GAIL)، والمصارف (SBI)، وبين قطاع خاص مزدهر وريادة أعمال ناشئة وشراكات تقنية عالمية.
وفي البرازيل، تُظهر مؤسستا بتروبراس وإمبراير كيف يمكن لمؤسسات عامة متخصصة أن تحتل الصدارة عالمياً في إنتاج النفط وصناعة الطيران، مع الحفاظ على السيطرة الاستراتيجية الوطنية.
مخاطر الخصخصة المفرطة
في المقابل، أدّت محاولات الخصخصة السريعة في كثير من الدول إلى زعزعة الاستقرار الاقتصادي. ففي روسيا، أسفرت الخصخصة الجماعية خلال التسعينيات عن نشوء احتكارات أوليغارشية وتعميق التفاوت الاجتماعي. وفي الأرجنتين، أدت خصخصة المرافق العامة إلى هروب رؤوس الأموال وارتفاع الأسعار، مما اضطر الحكومة لاحقاً إلى إعادة تأميمها. أما في بريطانيا، فإن خصخصة السكك الحديدية وشركات المياه أدت إلى تدهور جودة الخدمات، وارتفاع التكاليف، وتحويل الدعم الحكومي إلى أرباح للمستثمرين، بدلاً من إعادة استثماره وطنياً.
وتؤكد هذه النماذج أن في العديد من القطاعات الاستراتيجية، مثل الطاقة، والنقل، والصحة، والبنية التحتية الرقمية، تقدم المؤسسات العامة نموذجاً أكثر استقراراً وسيادة واستدامة على المدى الطويل.
الأثر العالمي للمؤسسات العامة على الوظائف والنمو
تشير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) إلى أن المؤسسات العامة حول العالم توفر أكثر من 300 مليون وظيفة بشكل مباشر وغير مباشر. ففي الهند، تدعم المؤسسات العامة أكثر من 10 ملايين وظيفة مباشرة، و60 مليوناً غير مباشرة عبر سلاسل التوريد. وتوفر مؤسسات الصين العامة أكثر من 40 بالمئة من وظائف المدن، بينما تساهم شركات مثل PLN وPertamina وTelekom Indonesia في إندونيسيا بأكثر من 15 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
ولا تكتفي هذه المؤسسات بخلق فرص العمل، بل تبني أنظمة اقتصادية متكاملة، مثل المناطق الصناعية، ومراكز البحث، ومنصات التصدير، ومراكز الابتكار الطويلة الأمد.
فرصة الكويت الاستراتيجية... نموذج سيادي جديد للتوسع العالمي
تمنح هذه التجارب العالمية للكويت فرصة نادرة لإعادة صياغة دورها الاقتصادي، فقد استفادت الدولة طويلاً من صندوقها السيادي، (الهيئة العامة للاستثمار)، الذي يُعد من أقدم وأهم صناديق الثروة السيادية في العالم. غير أن الكويت لم تطرق بعد أبواب الإمكانات الكاملة التي يتيحها نموذج الاستثمار السيادي النشط، عبر بناء منظومة وطنية من المؤسسات العامة ذات الطابع العالمي.
وبدلاً من المفاضلة بين الخصخصة والاستثمار الصامت، يمكن للكويت أن تتبنى نموذجاً سيادياً هجيناً، يستلهم أفضل التجارب الدولية، ويترجمها إلى منظومة مؤسسات كويتية تديرها الدولة بكفاءة ومرونة.
من الصين: بناء مؤسسات ذات حجم تشغيلي عالمي، وتأسيس شراكات تكنولوجية، وتوسيع النفاذ إلى الأسواق العالمية عبر مشاريع مشتركة.
من سنغافورة: تطبيق أرقى معايير الحوكمة، والاندماج في الأسواق المالية العالمية، والانفتاح المدروس على الاستثمارات الأجنبية.
من النرويج: استغلال الثروة النفطية ليس فقط لضمان الاستقرار المالي، بل لدفع التحول نحو الطاقة النظيفة والتكنولوجيا الحيوية والصناعات المتقدمة.
من الهند: الجمع بين ريادة الدولة في القطاعات الاستراتيجية وبيئة تنافسية تشجع ريادة الأعمال وتنمّي المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
من البرازيل: تطوير مؤسسات وطنية رائدة في قطاعات التصنيع المتقدم، واللوجستيات، والرعاية الصحية، والبنية التحتية.
الأثر الاقتصادي المحتمل للكويت (2025 - 2045)
إذا قررت الكويت اعتماد هذا النموذج، فإن التحول الاقتصادي المتوقع قد يكون غير مسبوق:
350 إلى 500 ألف وظيفة جديدة مباشرة وغير مباشرة، خصوصاً لفئة الشباب، والنساء، والكفاءات المتخصصة.
50 إلى 70 مليار دولار ناتجاً محلياً غير نفطي جديداً، يقلل تدريجياً من الاعتماد على النفط.
زيادة حصة الناتج المحلي غير النفطي بنسبة 25 إلى 30 بالمئة، مع إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني.
أصول سيادية كويتية مدارة حول العالم بقيمة 300 إلى 500 مليار دولار، تشمل مراكز لوجستية، وممرات للطاقة، وبنية تحتية رقمية، وسلاسل غذاء زراعي، ومشاريع في التكنولوجيا الحيوية في آسيا، وإفريقيا، وأوروبا.
دور الشراكات الاستراتيجية مع الصين
من بين جميع النماذج العالمية، تقدّم المؤسسات الصينية المملوكة للدولة فرصة شراكة استراتيجية استثنائية للكويت. ويمكن للكويت إقامة شراكات انتقائية معها في مجالات مثل:
الطاقة المتجددة، والهيدروجين، وسلاسل توريد السيارات الكهربائية.
إدارة الموانئ العالمية، والشحن، ولوجستيات السكك الحديدية.
الأمن الغذائي، وسلاسل التوريد الزراعية، وشبكات التبريد عبر الحدود.
الذكاء الاصطناعي الصحي، والتكنولوجيا الحيوية، وتصنيع الأدوية.
البنية التحتية الرقمية، والخدمات المالية الرقمية، وحوكمة البيانات السيادية.
تمنح هذه الشراكات الكويت ميزة التحكم السيادي والانتشار التشغيلي العالمي، مما يرسخ موقعها ليس فقط كدولة خليجية، بل كلاعب اقتصادي دولي يمتلك أصولاً تشغيلية عالمية وفقاً لأولوياته الوطنية.
خيار استراتيجي يستحق الدراسة
هذا النموذج لا يُقدَّم كخطة إلزامية، بل كإطار سياساتي جدّي يمكن لقيادة الكويت أخذه في الحسبان وهي ترسم مستقبل البلاد. ففي عالم يتجه إلى التعددية القطبية والتنافس السيادي، ستكون الغلبة للدول التي تتحكم في قدراتها التشغيلية السيادية، لا تلك التي تكتفي بثروات مالية سلبية.
تملك الكويت كل المقومات: رأسمال قوي، وشعب شاب، وسمعة عالمية، وموقع جغرافي محوري. وبإمكانها أن تصبح - بوعي استراتيجي - سنغافورة أو النرويج أو الصين السيادية لمنطقة الخليج العربي.
الفرصة متاحة، ويبقى القرار مرهوناً برؤية الكويت لربع القرن المقبل.
* الرئيس التنفيذي لشركة دو كابيتال في سي، ومحاضر زائر في ريادة الأعمال، ومؤسس الغرفة الإسلامية العالمية للتجارة والصناعة عبر الإنترنت. وهو أيضاً متحدث عالمي في مجالات الاستراتيجية وتطوير الشركات الناشئة، ويُعرف برؤاه في الاقتصاد وبناء منظومات أعمال مبتكرة، وأخلاقية، وقابلة للتطوير.