CBS بين مطرقة الرئيس وسندان الرقابة
في مشهد لا يخلو من الرمزية، تجد شبكة CBS الإخبارية نفسها في قلب معركة سياسية وقضائية تتعلَّق بحُرية الصحافة، إثر دعوى رفعها الرئيس دونالد ترامب يتهم فيها الشبكة بتحريف مقابلة مع نائبة الرئيس السابق كامالا هاريس. وبينما يراها كثيرون قضية عبثية تهدف إلى الضغط السياسي، فإن تداعياتها تهدد صفقة استحواذ ضخمة تسعى CBS لإتمامها مع شركة Skydance التابعة لديفيد إليسون، نجل الملياردير الجمهوري البارز لاري إليسون.
المفارقة الكبرى أن الجهة الوحيدة التي تملك مفتاح تمرير هذه الصفقة هي لجنة الاتصالات الفدرالية (FCC)، التي يترأسها حالياً بريندان كار، المعيَّن من قِبل ترامب. ورغم تجاوز المهلة الزمنية التقليدية التي تضعها اللجنة لمراجعة صفقات الدمج، فإن كار يبرر التأخير بـ «أسئلة تتعلَّق بسياسات التنوع والمساواة» لدى CBS، وهي ذريعة تبدو واهية في نظر كثير من المراقبين، خصوصاً مع تراجع أهمية البث التلفزيوني الأرضي لمصلحة الإنترنت ومنصات البث الحديثة.
لكن الاتهامات لا تتوقف عند كار. فالقاضي الفدرالي ماثيو كاكسماريك، هو الآخر من تعيين ترامب، رفض طلباً من CBS بإسقاط الدعوى، استناداً إلى التعديل الأول من الدستور الأميركي، الذي يكفل حُرية الصحافة، متجاهلاً الطابع السياسي الواضح للقضية.
في المقابل، يظهر ضعف CBS في دفاعها عن نفسها. فرغم بساطة الحل- نشر النص الكامل والمقطع المصوَّر الأصلي للمقابلة- فقد فضَّلت الشبكة الصمت، مما فتح الباب أمام ترامب لفرض روايته السياسية. هذا التخاذل لم يقتصر على الإدارة، بل شمل أيضاً شاري ريدستون، مالكة CBS، التي أشارت تقارير عديدة إلى أنها تضغط داخلياً لتسوية القضية مع ترامب، خشية أن يؤدي استمرارها إلى تعثر صفقة البيع التي تحتاجها مالياً.
أما على الجانب الآخر من الصفقة، فلم يُظهر ديفيد إليسون ولا والده لاري أي نية للدفاع عن CBS أو عن مبدأ استقلالية الإعلام. وربما يُعزى ذلك إلى علاقات إليسون الأب الوطيدة مع ترامب، مما يطرح علامات استفهام حول حياد الصفقة ومآلاتها في حال استُخدمت كورقة ضغط سياسي.
وسط كل هذا، يبدو غياب الإعلام الأميركي عن المعركة مُقلقاً. فشبكة CBS، رغم تراجع تأثيرها، تظل رمزاً من رموز الصحافة الأميركية، وكان من المنتظر أن تقف مؤسسات الإعلام وقادتها دفاعاً عن حريتها واستقلالها. إلا أن صمتهم يشير إلى مناخ عام يسوده الخوف من التدخل السياسي، أو ربما التواطؤ الضمني مع السُّلطة.
هذا المشهد يذكِّر بما حدث في عهد إدارة أوباما، حين استجابت لجنة الاتصالات في اللحظة الأخيرة لضغوط من البيت الأبيض لإقرار سياسة «حياد الإنترنت» التي كانت تُرضي منصة نتفليكس، والتي كافأت الرئيس لاحقاً بعقد إنتاج مربح. لكن الفرق أن ما جرى حينها، وإن كان سياسياً، لم يتجاوز حدود القانون، فيما القضية الحالية تنذر بتحوُّل عميق في العلاقة بين الإعلام والدولة.
في نهاية المطاف، تبدو CBS اليوم كرمز لانحدار مؤسسة إعلامية كبيرة من موقعها كمراقب للسُّلطة إلى هدف لهجماتها. ومع غياب مواقف واضحة من الأطراف المعنية، تطرح هذه القضية أسئلة أعمق: هل لا تزال حُرية الصحافة مضمونة في أميركا؟ وهل صارت المؤسسات الإعلامية مستعدة للمساومة على مبادئها في سبيل البقاء المالي أو السياسي؟ أم أن هذه المعركة- المُهملة إعلامياً- ستنتهي بهزيمة رمزية أخرى لصحافة كانت يوماً حجر الزاوية في الديموقراطية الأميركية؟
* هيلمانو جنكينز الابن