قاهرة أديب نوبل

نشر في 11-06-2011 | 01:01
آخر تحديث 11-06-2011 | 01:01
كثر سألوا لو أن الروائي نجيب محفوظ ما زال على قيد الحياة، كيف كان سينظر الى ثورة ميدان التحرير؟ بل كيف كان سينظر إلى القاهرة وتحوّلاتها الجديدة وبلطجيّتها في الميدان وخيولها وجمالها وناسها وهو الذي طالما عشق هذه المدينة وكتب عن أحيائها الشعبية وناسها وحوانيتها. بالطبع، كان محفوظ يكتب حكاية القاهرة، وهو توفي قبل أن يندثر زمن الحكايات مع سيطرة عالم الميديا وشبكات التواصل الاجتماعي.

يبدأ نجيب محفوظ رواية «زقاق المدق» (1946) بوصف زقاق المدق ودكاكينه، مركزاً على مقهى كرشه والعطارين، حتى لكأنك تشم رائحة عطور الزمن، ثم ينتقل الى وصف الرجال مبتدئاً بالعم كامل بائع البسبوسة ثم عباس الحلاق ثم بائع الحلويات والعطارين والشاعر الحكواتي والدكتور بوشي والمعلم كرشه صاحب مقهى كرشه، لينتقل الى وصف نساء الحي بدءاً بالسيدة الخمسينية سنية عفيفي التي تبحث عن زوج أصغر منها، وانتهاءً بالشابة حميدة التي تقول لها أمها إنها لن تتزوج، فأي رجل يرضى بأن يضم الى صدره جمرة موقدة؟ وحميدة الشابة هي بطلة رواية «زقاق المدق»، وهي، على رغم فقرها وكونها يتيمة، ممتلئة بالغرور والطموح والجرأة في مواجهة الصعاب.

 كان الحكواتي إحدى علامات المقهى، لكنه يُطرد منه حين يشتري المعلم كرشه راديو ويضعه فيه، وهذا إيماء الى أحوال تبدّل الميديا في النسيج الاجتماعي وفي المقهى، وإشارة الى واقع دخول ثورة الاتصالات في المجتمع. صار الراديو بديلاً عن الإنسان.

مع ثورة ميدان التحرير، يبدو أن وسائل الاتصال الجديدة طردت كل شيء، لا الحكاية فحسب بل الكتاب أيضاً. بات العالم أمام معادلة «غوغل» في مواجهة الجمال، الـ{يوتيوب» كبديل عن السينما، الـ{فيس بوك» كبديل عن الإعلام، الـ{بلوغرز» كبديل عن الرواية. كل شخص يؤلف لنفسه ويكتب لنفسه، وكل شخص قد يكون صحافياً للحظة ومصوراً ومخرجاً. اندثر زمن الاحتراف في الفنون على رغم رواج زمن الخبراء في مجالات عدة.

أمام هذه التحوّلات، يصعب على الجيل الجديد التكيّف مع كلاسيكية نجيب محفوظ، بقدر ما يصعب على الروائيين الحاليين تجاوزه. لكن ما ينبغي التنبّه إليه أن محفوظ سبق الآخرين في رصد تحولات المدينة، وهو لو بقي إلى اليوم لكتب عن اللغة الجديدة والـ{فيس بوك» وما حمله من تحوّلات هي بمثابة ثورة كبرى.

فهل تنجو أمكنة نجيب محفوظ وأدبه من التحولات الميديائية؟

لنقل إنه في السنوات الأخيرة برزت أنماط جديدة من الكتابات الشعبية – الأنترنتية مثل روايتَي «عايز اتجوز»، و«رز بلبن لشخصين» وغيرهما من روايات «الفاست فودية» التي نالت شعبية كبيرة من دون أن يكون فيها أدنى مستوى من الأدب، وهي أن دلّت على شيء تدل على التحوّل في اللغة المصرية واللغة التي فرضها الإنترنت أو لغة الروشنة، وتجعلنا نرثي زمن محفوظ وحكاياته الكثيرة. حتى القاهرة الفاطمية التي يصعب على القارئ أن يتخيلها من دون أعمال محفوظ الروائية والقصصية، أصابها التحوّل في صميمها، ذلك لأن كثيراً من عشاق محفوظ نفسه كانوا يرصدون أمكنته وتحولاتها وبعضهم حاول بجهده الحفاظ عليها من خلال جعلها مزارات ثقافية (سياحية).

في دراسة، قارن الشاعر المصري شريف الشافعي بين ما كانت عليه الأماكن التي دارت فيها أحداث روايات محفوظ وما آلت اليه، ليصل الى أن المكان في أعمال محفوظ ليس مجرد مساحة جغرافية ساكنة بقدر ما هو كائن حي ينمو في النسيج الروائي متفاعلاً مع الشخصيات «ويستوعب سيولة الزمان».

القاهرة الفاطميّة

يكاد القارئ الذي لا يعرف القاهرة الفاطمية يظنّ أنها باتساع الكون حين يكتفي بتخيّل مساحتها عبر قراءة أعمال لمحفوظ خلّدت أماكن وشوارع محدّدة، أبرزها «بين القصرين» و{قصر الشوق» و{السكرية» و{زقاق المدق» و{خان الخليلي». وقال الشافعي في كتابه «نجيب محفوظ... المكان الشعبي في رواياته بين الواقع والإبداع»، بعد رحلة تقصى فيها مصائر تلك الأماكن، ترك الزمن أثره وإيقاعه فتبدّلت أشياء برع محفوظ في تثبيتها فنياً ومنحها روحاً متجددة. أضاف الشافعي: «ها هي أمكنة روايات نجيب محفوظ تمتثل لقانون التغيير الأزلي... العطفة تتحوّل الى الشارع. والحانوت الى سوبر ماركت. والملاية اللف الى فستان. والبيت الحجري القديم الى عمارة شاهقة. وتبقى الأثريات والعمائر الإسلامية العتيقة وطائفة الحرفيين والصنايعية المتأصلين. يبقى هؤلاء كلهم ليحفظوا جسد الجغرافيا من التلاشي وروح التاريخ من الذوبان».

رصد المؤلف بعض المعالم الواردة في رواية «بين القصرين»، وهي الجزء الأول من الثلاثية الشهيرة، ليجد أن شارع بين القصرين أصبح يحمل اسم المعز لدين الله، وأن المقهى الذي كان يجلس عليه ياسين بن أحمد عبد الجواد لا وجود له. وتسجّل الرواية أن المقهى كان يواجه بيت زبيدة الراقصة «العالمة»، لكن بعض أهالي الحي أنكر وجود راقصات أو عوالم بين سكانه لا الآن ولا عام 1919، حيث دارت أحداث الرواية.

أما بالنسبة إلى محفوظ، فكانت زبيدة الراقصة ملهمته في الثلاثية، وحين أهداها الجائزة، كان يعلمنا في روايته أن المرأة المصرية ذات وجهين، إما ساقطة أو فاضلة على رغم أنفها. فاضلة لأنها لم تستطع أن تسقط، إذ حبسها رجل ما وقيّد حريتها فصارت فاضلة، تسييراً لا اختياراً. فاضلة بسبب قبضة الرجل المسيطر على معصمها. زبيدة إحدى الشخصيات التي لم تعد موجودة في القاهرة، لم تعد الراقصة ملهمة في النسيج الأدبي إذ وصل الرقص إلى حالة يرثى لها مع رواج زمن الكليبات والهز الرديء؟

ليس الشافعي وحده من رصد تحوّلات الأمكنة التي كتب عنها محفوظ، فثمة دراسة جامعة صدرت في هذا السياق لرشا منير محمد زكي حول العناصر التشكيلية الشعبية في رواية محفوظ «زقاق المدق». هدفت الباحثة الى استخلاص العناصر المكونة للصورة التشكيلية الشعبية في هذه الرواية من عمارة وأزياء، وأدوات، وأثاث، وغيرها... من ثم وصْفها وفقاً لما كانت عليه في زمن الأربعينيات من القرن العشرين، للتعرّف إلى واقع القاهرة الفاطمية في الرواية كما أراد محفوظ.

ركّزت الدراسة على أهمية الرجوع الى عامل الزمن عند وصف المفردات التي ذكرها محفوظ في الرواية، حيث وجدت أخطاء شائعة عدة في تناول قاهرة الأربعينات، قدمت صوراً لمقهى الزقاق بما فيها من مستجدات حديثة من مقاعد وأدوات، بينما للمقهى الذي يصفه محفوظ في الرواية طراز معين يتوافق مع الحقبة الزمنية الذي كانت فيه.

أشارت الدراسة الى أن محفوظ أعطى صورة تشكيلية لزقاق المدق ببعديها التاريخي والجغرافي، إذ قال عنه: «تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحفِ العهود الغابرة، وأنه تألق يوماً في تاريخ القاهرة المعزية كالكوكب الدري... أي قاهرةٍ أعني؟ الفاطمية؟ المماليك؟ السلاطين؟، علم ذلك عند الله وعند علماء الآثار، ولكنه على أي حال أثر، وأثرٌ نفيس».

لا ينبغي فصل رصد أمكنة نجيب محفوظ عن المراحل السياسية والثقافية، فثمة مرحلة أنتجت أم كلثوم ومرحلة أنتجت بوسي سمير وشعبان عبد الرحيم. كانت القاهرة تأخذ حضورها من المرحلة السياسية التي تفرض عليها، فثمة القاهرة الناصرية والقاهرة الساداتية والقاهرة المباركية، وهذه الصفات من دون شك كانت تمارس الإيذاء على القاهرة القديمة وقاهرة نجيب مفوظ تحديداً. علماً أن ثمة مشروعاً أطلق قبل ثورة ميدان التحرير ويقضي بتحويل أماكن نجيب محفوظ، سواء التي أقام بها أو خلّدها في كتاباته، أو التي كانت تشكّل محطات أساسية للقاءاته بالكتاب والمثقفين، إلى مزارات سياحية. لكن لا نعرف أين أصبح هذا المشروع الرمزي. والنافل أن معظم الأماكن التي تناولها محفوظ في كتاباته يقع في شارع المعز لدين الله، والشوارع الجانبية.

back to top